جيلنا الذي لا ينتمي إلينا
جيلنا الذي لا ينتمي إلينا .. ليس بوسعي إلاّ أن أشكر هذه الحياة التي أتاحت لي فرصة معاصرة ومعايشة أحداث ووقائع وكوارث وظواهر وحروب وفتوحات وانجازات كان سيحسدني عليها حتماً من عاش قبلي أو من سيعيش بعدي.
أفخر أنّي أضع قدميّ فوق قرنين شامخين تتناوب فيهما الأيام الطاسات الساخنة والباردة والفاترة على رؤوسنا الصغيرة منذ ستّينات القرن الماضي, فهذا الإنسان يظهر عبر الشاشات يدوس شعريّة القمر وخرافته ويقفز فوقه ككرة (البينغ بونغ) وذاك مذنّب هالي يشقّ سماءنا في رحلته الأبديّة التائهة أمّا الشمس فانكسفت هي الأخرى أمام طبيعة تغضب زلازل وحرارة تنحسر و جليدا يذوب ,كلّ هذا شكل لوحة خلفيّة لحروب تريد تغيير الخرائط وجدار يسقط لترتفع جدران أخرى غير مرئيّة وأسماء مبتكرة لأمراض نظنّها أيضا مبتكرة لم تفدها مبتكرات واستنساخات علميّة لو نظر إليها الأقدمون لقالوا: ماهذا إلاّ سحر مبين.
كيف لك أن تحاور أناساً لم يشهدوا هذه الدراما الهائلة في حياتهم أو لم يتفاعلوا معها!.. كيف لك أن تقنع من ولد في جلباب أبيه أنّ الفوتبول لا يمارس في جلاّبية وأنّ الصوت الجميل ليس عورة و أنّ الشارع ليس ملكاً له وحده وأنّ الأفكار لا تنتظر التأشيرة عند الحدود وأنّ أسراره لم تعد أسراراً.
… ولكن… هل أنّ سنّ الشباب وحده كفيل بجعلك أكثر حبّاً للحداثة والتطوير والتجريب والمغامرة؟… كثيراً ما نلتقي بشباب في سن آبائنا وأجدادنا وبمسنّين أكثر منّا جرأة واستشرافاً للمستقبل, وكثيراً ما نلتقي بنقاب داخل رأس سافر وبحداثة داخل جلباب وبأقنعة تحت الجلد وبتخلّف يتستّر بمفردات الحداثة.
أو ليست غالبيّة عناصر الجماعات المتطرّفة من التكفيريين والمنظّرين لثقافة الموت و الانتحار من جيل الشباب؟.. ما هذه الردّة السلفيّة إذن و ما الذي جعلها تجتاح مجتمعاتنا في وضح النهار وما أسبابها؟…
جوهر السبب في اعتقادي يعود إلى غياب ثقافة الاعتدال والقبول بالآخر فمن تربّى على الأحاديّة سوف يظلّ أحادياّ سواء كان في اليسار أم في اليمين والقضيّة تتعلّق ببنية التفكير وآلياته قبل الفكر و انتاجاته.
التطرّف ما هو إلاّ حالة بحث (دونكشوتيّة) عن مخلّص إزاء الأزمات المعيشية والحياتية حين يفقد واحدنا الأمل والأعصاب في ذات الوقت، أمّا المسؤولية فيتحمّلها الحاكم والمحكوم، الماضي والحاضر وكل الأجيال في ذات الوقت.
الأجيال، تلك هي المسألة، ما لدينا هو أجيال تتخاصم ولا تتحاور، بل جيل تتخاصم فيه أجيال وأهواء وحساسيات متنوّعة.
شخصيّاً لم يخطر ببالي أن أسأل نفسي يوماً: إلى أيّ جيل أنا أنتمي، ذلك أنّ قناعتي ضعيفة ومهتزّة بجدوى تقسيم الوعي البشري إلى فئات عمريّة دون اعتبار للمكان وخصوصياته الملتبسة وللشخص ومرجعياته المتلوّنة.
هل ثمّة خيط ناظم حقّاً لفئة تشكّل وعيها على أحداث ووقائع وتطوّرات صاغت نمط عيشها وتفكيرها فجاز لنا أن نضعها في سلّة واحدة إلى جانب خانات أخرى مصنّفة وموثّقة و مؤرشفة حسب منطق الروزنامه؟..
ما المقصود بعبارة (فلان سبق عصره)؟.. وآخر (يواكب عصره) وثالث (يعيش خارج عصره)؟.. بل ما هي المقاييس الدقيقة للاقتراب أو الابتعاد عن العصر؟!..
أين الحدود الفاصلة بين المواكبة والاحتجاج والإنكفاف؟.. هل نتمكّن يوما من القبض على تعريف جامع مانع لمعضلتي الأصالة والمعاصرة أم أنّ قدر هذه المفاهيم أن تبقى زئبقيّة وعصيّة عن الإمساك بها؟..
جملة أسئلة وتساؤلات فجّرها أمامي برنامج تلفزيوني وإذاعي حين دعاني للمثول أمامه كشاهد يمكن أن يكون (مزوّراً)، على جيل جايلته وجايلني غصباً عنّي، فهل يتنكّر لي وأتنكّر له وأنا الذي يدّعي أنّه قد محا الفارق اللفظي بين (سان جون بيرس) ومحمود درويش, وبين الأخير والمتنبي ….. والطربوش والكاسكيت والبيانو والربابة، والغزالي و ابن رشد و(تشومسكي) ومسرحنا ومسرحهم…. ..وجيلنا وجيلهم؟!..
قبل أن نلوك عبارة تقليديّة اسمها (صراع الأجيال) لنلتفت إلى بيتنا ونحاول ترتيبه ـ قدر الإمكان ـ تحت يافطة عنوانها: حوارات جيلنا في جيلنا عن جيلنا ولجيلنا.