غدا سوف نحلّق.. ولو دون جناحين
غدا سوف نحلّق.. ولو دون جناحين.. الفتح التدريجي للحدود البرية والبحرية والجوية، يجعل العالم يتمطط مبتهجا مثل طير مهاجر وقد استفاق من سباته الشتوي.
“غدا سوف نحلّق بكل ما أوتينا من ريش وكبرياء” قال طائر لابنه وهو يطعمه آخر ما تبقى من مؤونة في العش البارد الصغير، بينما كان طائر آخر مكسور الجناح ينصت إليه بألم وحسرة في عش قريب، وعلى مرمى بنادق الصيادين.
غدا تدور محركات الطائرات الرابضة على أرضها، والبواخر الراسية في موانيها والقطارات الجاثمة في محطاتها.. ويعود الناس للتوديع والاستقبال ولو من خلف الأقنعة والقفازات، لكن “توابيت” أخرى ستستمر في مخر عباب البحر، سواء كان ذلك تحت غطرسة سلطة كورونا أو غيابها.
مسافرو المراكب المتهالكة لا يحتاجون إلى مودعين ومستقبلين، ولا حتى إلى كمامات وتباعد صحي واجتماعي.. يكفي أن يموتوا متشابكي الأجنحة والأحلام، مثل سرب واحد من الطيور المهاجرة.
وحدهم المهاجرون “غير الشرعيين” لا ينتظرون فك حصار الحجر الصحي ب”فارغ الصبر”.. أي صبر هذا؟.. عن أي صبر تتحدثون وقد استوفيناه حتى آخر اتفاقية دولية ” تحفظ الأمن وتمنع التسرب”؟
إيطاليا التي كان يعربد فيها فايروس كورونا ويطوف في شوارعها بمنجله الحاصد وخطّافه القابض، كانت قبلة مشتهاة لكل شباب أفريقيا وآسيا وغيرهم ممن ضاقت بهم السبل.. نعم، إن كل طرق اليأس والأمل تؤدي ـحتما ـ إلى روما.
ومثل أي غلادياتور جسور يحارب الغزاة على مشارف روما، ويقاتل السباع الضارية في مسارحها، تصدى الكثير من هؤلاء إلى فايروس كورونا في المستشفيات الإيطالية فاستحقوا لقب “فارس” عن جدارة، وصار “مجلس الشيوخ” يحسب لهم ألف حساب.
الوافد القادم من الضفة الأخرى للمتوسط، كان في الأمس القريب يستقبله المسعفون في جزيرة لامبادوزا، بالكمامات اتقاء لأمراض قد تهاجر معه، صار اليوم ينزل إلى شواطئها ـ أو يموت دونها ـ ودون قناع.
“المهاجرون غير الشرعيين” ـ كالطيور ـ لا يحتاجون إلى أقنعة ولا إلى تأشيرات عبور، ولا ينتظرون بفارغ الصبر، فتح الحدود أو الأذرع أو قاعات الاستقبال الرسمي.. إنهم يمشون على سجادة حمراء بلون الدم المنحلّ في الأزرق المتوسط.
ها نحن في قرطاجة الأمس واليوم، ننجو من الأوبئة بأعجوبة يا روما الأمس واليوم، ونقيم لك الدليل على أن الفايروس الحقيقي هو التباعد الثقافي والعنصري وليس التباعد الصحي والاحتياطي.
أيها المقيم في الضفة الأخرى، اقترب كي أحتضنك وأصافحك وأقبلك دون أقنعة وقفازات وكمامات.. ودون شماتة من قرطاجي رشيتم أرضه يوما ملحا كي تعقر ولا تنجب.
أما الذي لا حول له في السفر، مثل ذاك الطائر المكسور الجناح، فيقول ما كتبه علي الجندي يوما ” القطارات تمر.. أستجدي على أبوابك يا أمي منذ صباحات العيد، مواعيد السفر”.