إن دخلوا ثورة أفسدوها…
إن دخلوا ثورة أفسدوها… كان الكفيف يمسك بفانوس ويشقّ طريقه بين الأزقّة بخطى واثقة نحو بيته الذي يعرفه جيّداً، اعترض سبيله أحد الدهماء، كاتفه برعونة واضحة حتى كاد أن يوقع المصباح من يده، ثمّ سأله بسماجة :(عجيب أمرك أيها الأعمى، ما حاجتك إلى هذا الفانوس وأنت لا تبصر شيئاً..!؟).
ردّ الكفيف بكلّ ما أوتي من حكمة المتبصّرين: (كي لا يتعثّر بي أمثالك من المبصرين).
كثيرون هم الذين لا يبصرون الشمس وهي في كبد السماء لمجرّد أنهم غطّوا وجهها – أو يحاولون – بغرابيل التكفير والجهاديّة وتخوين الناس، عميان هم أولئك الذين أرادوا أن يفقئوا عيون المعرّي في سوريا وطه حسين في مصر، سافر تخلّفهم، أولئك الذين أرادوا أن يحجّبوا تمثال أم كلثوم ويجلدوا صوتها، جرذان تنزف حقداً وطاعوناً هم أولئك الذين أرادوا نبش قبور التنويريين وهدم أضرحة ومقامات الأولياء والصوفيين في تونس وليبيا.
من أين هذه البليّة التي باتت تترنّح وتعربد تخريباً وإرهاباً في الشارع العربي وتحوّل ربيعه إلى خريف … وكأنّ الأخير لا ينقصه إلاّ هؤلاء الجلاوزة والإنكشاريون … هؤلاء هم رعاع السلفيّة … إن دخلوا ثورة أفسدوها، وجعلوا الناس تترحّم على أيّام (الاستبداد الآمن).
كأنّنا هزمنا الفقر والجهل والمرض والتخلّف والظلم والفساد ولم يبق لنا إلاّ التفكير في حور العين وأنهار العسل واللبن في جنّات الخلد التي هي منهم براء …وبعيدة عن رؤوسهم المتّسخة ولحاهم المغبرّة ونفوسهم الأمّارة بالسوء.
هم حتماً يدّعون – وبسفسطة لا غبار عليها – أنّ هذه الأوبئة الاجتماعيّة والسياسية والاقتصاديّة، إنّما انتشرت بسبب ابتعادنا عن تعاليم الله ولا يمكن مكافحتها إلاّ بالعودة إلى شريعة الله… وكأنهم وكلاؤه الحصريون.
عال…. وما شريعة الخالق عزّ وجلّ غير العدالة والمحبّة والتسامح والدعوة للعلم والمعرفة !؟.. لم أسمع بديانة -على حدّ علمي – تحثّ على قتل الأطفال وسبي النساء وإهانة المسنّين .
يسأل القلب المثقل الحزين بغضب مشروع :(من سلّط هؤلاء ومن أين جاؤوا .. وكيف تسلّلوا إلى مسامات جلدنا وحليب أطفالنا وسهراتنا التلفزيونية وقهوتنا وجرائدنا الصباحيّة..!؟).
تردّ الرأس الباردة بقراءة مقنعة :(هم لم يأتوا … ولم يرسلهم أحد … بل كانوا يعيشون بيننا، في دفاتر أطفالنا وظلم حكّامنا وخوفنا من قطع الأرزاق والأعناق … هم بيوض الأفاعي التي حضنتها كراسي السلطة غير المنجّدة .. والمهووسة بالبقاء).
هذه قربة الأمل المثقوبة … وقد أوكتها أيادينا المرتعشة وأفواهنا التي خاطتها مسلّة القمع وسنوات الرعب والعيش في أقفاص السكوت.
الحقيقة الوحيدة هو أنّ الجبناء لا يصنعون التاريخ والأيادي المرتعشة لا تقوى على البناء ….. الحقيقة يجب أن تقال و المعركة مستمرّة وأزليّة ومفتوحة بين أنصار الحياة بمفهومها الخيّر والإبداعي كرسالة محبّة وأمانة مشرقة، تحتفي بالإنسان وتليق بوجوده الطاهر الكريم من جهة، وبين أعداء الحياة وأنصار القبح ودعاة الموت من جهة أخرى.
الفرق واضح وجليّ بين العقل البشريّ الذي يسعى لوعي ذاته ويتوق للتفوّق عليها عبر قيم الإبداع والمعرفة والأخلاق السامية والاحتفاء بخليفة الله في الأرض وبين حالة بدائيّة، همجيّة، تخاطب الغرائز الوضيعة وتهين انسانية الإنسان في توقه إلى مطلق الجمال والخير والتسامح.
أين المثقّف العضوي (بمفهوم “أنطونيو غرامشي” طبعاً) … أين تلك المحاريث النزقة التي تخصب الأرض العاقر وتحوّلها إلى أنهار من عسل المعرفة ولبن الحياة التي تليق بأحفاد ابن خلدون وابن رشد وأبي العلاء المعرّي .
*كلمة في الزحام:
المواطن البسيط – ورغم كل عيوبه – هو ذاك الكفيف الذي يتّجه نحو بيته دون حاجة إلى دليل، الفكر الظلامي هو ذاك الأرعن الذي يعترض طريقه…أمّا المصباح فهو الحيطة الدائمة والحذر من الذين على قلوبهم غشاوة ..فلا يبصرون والطريق مضاءة وواضحة.