وأكلت الممحاة
وأكلت الممحاة …منذ أربعة عشر عاما كنت أكتب قصصا ومشاكسات للأطفال بمتعة هائلة في مجلّتي ( أسامة )و(سامر) الدمشقيتين ,ثمّ انقطعت لأسباب مازلت أجهلها, ها أنا اليوم , أقرفص أمام كراتين أحد باعة المجلاّت القديمة وأتصفّح ما كنت قد كتبته للقارئ الصغير بذات المتعة وقد بدأت الألوان والرسومات تنهض من سباتها,تنتعش ,تتأهّب للقفز فكأنّها خرجت لتوّها من أحضان المطبعة.
توقّفت فجأة عند آخر ما كتبت:حواريّة بين الصحراء والشجرة,أدركت حينها سببا من الأسباب الدفينة التي أبعدتني عن الكتابة للأطفال وجعلتني ألهو مع الكبار وأحاول قمع ذلك الطفل الذي كنته ـ ولا أزاله ـ غصبا عنّي.
هزمني الحبّ في تلك الأيّام(مثل كل ّمرّة)ورحت شارد الذهن أبحث عن قصّة أبعث بها إلى المجلّة الأسبوعيّة فلم تسعفني مخيّلتي المنهكة والمريضة بسبب صفعة الفراق وحدّة المعاناة,فكّرت وقدّرت ثمّ قرّرت كتابة هذه الكلمات التي أختفي فيها وراء براءة طفل كي تصل الرسالة إلى تلك التي غادرتني لألف سبب وما زلت أصرّ على أنّها غادرت بلا سبب.
فيا أيّها الأطفال الذين قرؤوني منذ أربعة عشر عاما وصاروا الآن شبّانا ,هذا هو سبب القصيدة وهذه كلماتها :
(قالت الصحراء يوما لطريّات الشجر:
ارحلي ,لا تخجلي ليس بأجوائي مطر
إنّ أرضي من رمال ثمّ إعصار وحر
ـ الشجرة:أنا يا صحراء لا أقوى على هذا الفراق
فيك سحر وجمال,فيك حبّ وعناق
فيك أطياف وأقمار ,ولكن, فيك حرّ لا يطاق
ـ الصحراء:يا بنتي قد كنت لي وشما على وجهي العبوس
وملاذا لصغار الطير من حرّ الشموس
كنت لي ظلاّ منيفا وبهيجا للنفوس
أزهري في أرض ماء واحذري تلك الفؤوس
ـ الشجرة:ها أنا أورقت حلما وابتهاجا بالرحيل
ليس لي فيك ظلال مثل هامات النخيل
لا ولا مشهد سحر عند فجر أو أصيل
فاعذريني إن أخذت الظلّ في الدّرب الطويل
وتركت الرّمل للحرّ الثقيل
ـ الصحراء:اعلمي يا طفلة الأشجار أنّي لا أبالي
إن بقيت اليوم عندي أو رحلت للأعالي
إنّ جوفي فيه ماء للشجيرات الطوال
وأنا أصنع ظلّي من كثيبات الرّمال.).
بعد جلسة طويلة موجعة الظهر والضمير بين كراتين المجلاّت القديمة عدت إلى البيت وقرّرت العودة للفردوس الضائع,الكتابة للأطفال ,للطفل المسجون في أقفاص الكلمات الكبيرة التي تستثقل حملها الألوان والرسومات ,عدت أقتفي أثر قوافل زكريا تامر وجاك بريفير وسانت اكزيبري بأميره الصغير ووردته الصغيرة وكوكبه الصغير وعالمه الأكبر من الخرائط ونشرات لأخبار.
عدت إلى الأطفال كما يعود جنديّ إلى قريته بعد حرب لا معنى لها ـ دعونا من استعارات الكبار وبلاغتهم المفتعلة ـ عدت إلى الأطفال كما يعود الأرنب إلى سرقة الخصّ ومسابقة سلحفاة عنيدة,كما يعود الغراب إلى الغناء وقطعة الجبن بين منقاريه , ـ دعونا من قصص الأطفال ـ عدت كما يعود العائد.
همس لي أحدهم متفاصحا:إنّ كتابة قصص الأطفال أو قراءتها علاج ينصح به الحكماء. قلت: ولكن أين هذه الأدوية المفقودة؟!,:قردة نحن ,هذا صحيح ,ولكن أين الشجر..!.؟.
إنّ المتتبّع لمعظم ما يصنع ويقدّم من وجبات (ثقافيّة)لطفلنا العربي يتمنّى في قرارة نفسه أن يكون قاضيا قرقوشيّا فيجمع هؤلاء الكتبة ويصنع بهم ما يمليه عليه خياله الواسع في يوم رائق (أتمنّى أن لا أكون من بينهم على كلّ حال).
تخيّلوا أحدهم يخاطب طفلا في العصر الديجتالي بقوله:أحب الماما والبابا وأنظّف أسناني وأنام وأحلم أحلاما سعيدة..!وآخر ينصحه على هذه الشاكلة الكاريكاتيريّة :لا تلعب الكرة وسط الطريق ,لاتفتح جرّة الغاز وأهلك نيام ولا تعبث بأسلاك الكهرباء وهي مكشوفة ولا تأكل الممحاة…ولا تلق بنفسك من الطابق الرابع…!!!!
لا شيء يشجّع على المبادرة وخوض المعترك إلاّ نقيضان,قبح شنيع تريد محاربته أو جمال ساحر تأمل في التفوّق عليه وهذا ما وجدته شخصيّا في الكتابة للأطفال أمام بؤس ما سبق أن ذكرت وروعة ماتذكّرت من قصص علّمتني امتطاء الخيال الذي لا أملك غيره .. وأسافر بعيدا في جرحي ووحدتي وطفولتي المستعادة قهرا أو قصدا.
بوابة الشرق الاوسط الجديدة