كتاب الموقعكلمة في الزحام

أفواه خارج السيطرة

أفواه خارج السيطرة .. دأبت العادة عندنا في تونس أن لا ننزعج أو نتحسس في نقاشاتنا اليومية، من تلك العبارات الصريحة النابية أو ما يُعرف بلغة ” ما تحت الحزام الزنّار” كما يقول أهل المشرق بل من الكلمة البديلة ” آش باش يقول فمّي؟” أي “ما عساه أن يقول فمي؟”، ذلك أن الجميع يتوقع عبارة أكثر فداحة وعدوانية مما يتخيل، لمجرد أن يسمع هذا التساؤل المربك على لسان قائله.

” آش باش يقول فمّي؟” عبارة تقال في أقصى حالات الاستياء والغضب والعجز على ابتكار ردّ يجعل من الخصم “هباء منثورا” فيركن القائل، ساعتها، إلى هذا التساؤل في محاولة لتبرئته من لسانه ككائن يزيد من الطين بلّة في أسوء حالات العنف اللفظي.

إذا سمعت تونسيا يستشيط غضبا وهو يردد مونولوج”آش باش يقول فمّي” فما عليك إلاّ أن تبتسم في وجهه، وتربت على كتفه بلطف قائلا ” اهدأ.. وبدّل هالساعة بساعة أخرى ” في محاولة لامتصاص غضبه وتجنبا للعبارة التي من الممكن أن يتفوه بها فمه الذي تخلى عنه في تلك اللحظة العصيبة الحاسمة.

انس جميع مفردات قاموس اللغة النابية في تلك الساعة، وتخيل شتيمة غاية في الجدة والابتكار والطرافة.. وأغرب حالات ” العربدة اللغوية”. تشكّر الفم الذي لم يسعفه، اللسان والخيال الذين خذلاه في تلك اللحظات.. وتصوّر ما يمكن أن يتفوه به في ذاك الموقف ثم اضحك ما شاء لك أن تضحك من قدرة على الابتكار في أصعب حالات العجز عن ضبط النفس والتماسك، وفقدان الصبر ومفردات اللباقة.

” آش باش يقول فمّي” التونسية قد تشبه عبارة ” لا تعليق” السائدة، لكنها تزيد عليها من حيث الصدمة وعدم التوقّع، على اعتبار أنك تعرف قائلها وتتخيل غرابة ردود فعله وطرافة خياله.

“المسكوت عنه” هنا، أشد وقعا من الكلام المباح و”المصرّح به”، ذلك أنه يتضمن لغة مضمرة تبقى متوثبة في قلب القائل ومخيال المتلقي الذي يتوقع الأفظع دائما.

عبارة أخرى ألعن وأشد دهاء من ” آش يقول غمّي؟” وهي أن يسألك أحدهم عن رأيك في عمل أنجزه فتقول له ـ فيما يشبه المجاملة ـ كلمة “كوجهك” (بكسر الكاف في العامية التونسية) ثم تبتسم ابتسامة خفيفة ومحيرة. ساعتها، سيجن جنونه، ويعيش غليانا داخليا يجعله يتمزق دونما تصريح.. فإن اعتبرك تسخر من شغله، أقرّ بوجهه الذميم وبيّن على أنه شخص معقّد.. وإن قبل بهذه المجاملة الملغومة، بلع الطعم وانطلت عليه الأضحوكة.

العامة تبتكر “فخاخا لغوية” عبر تاريخها بحس فطري مدهش وشديد المكر ثم يأتي اللسانيون وعلماء الأنثروبولوجيا ليدققوا وينظروا و.. “آش يقول فمّي”.. بربكم أليس هذا الرأي “كوجهي”؟.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى