اختصر يا زميل…
اختصر يا زميل… … عبارة لا تغيب عن ألسنة رؤساء الجلسات ومديري الندوات في الاجتماعات التأسيسيّة عبر مختلف موضوعاتها ومشاربها، أمام أصحاب المداخلات الأطول من صبرنا عليهم.
يمسك الواحد منهم بالميكروفون مثل عجوز وقد أمسكت بسارق، يقول كلمته وكلمة جميع أفراد عشيرته … وكأنّه سوف يسلّم الروح إلى باريها فور نزوله المنبر….(لاحظوا معي أنّ تسمية منبر جاءت من عبارة نبرة).
ترى، من الذي أورثنا هذا الجوع المزمن للكلام، مع أنّ موروثنا الثقافي يزخر بمدح الإيجاز وذمّ الإطالة ويجعل من الصمت وقلّة الكلام معدنا نفيساً يليق بأصحاب الحكمة، أم أنّ في الأمر تعويضاً عمّا جانبوه من صدق في القول وإخلاص في العمل.
كل الكلمات الشافية والخطب الحاسمة التي غيّرت وجه التاريخ فخلّدها، جاءت مقتضبة كحدّ السيف … منذ أباطرة الرومان، مرورا بخطبة زياد بن أبيه عند العرب والمعروفة بالبتراء، وصولاً إلى ما قاله رجالات الحرب العالمية الثانية.
أمّا أزمنتنا الحديثة فقد بالغت في الاختصار بفضل الفورة الرقميّة، لا بغرض الصدق والإفادة وإراحة الناس، بل للأسباب نفسها التي ينتهجها تجّار سوق (الكسالى) والتمطيطيون والثرثارون والصيّادون في فقاع الكلام.
صار اختصارهم احتقاراً لمداركنا الذهنيّة وتسويفاً(سريعاً) لمطالبنا المستعجلة، مثل حال الذي كان يكتفي بحبّة مسكّن واحدة وطويلة المفعول في نهاره فأصبح يتناول حبّة كل ساعة، بعد استشارة أطبّاء العولمة … والحبل على الجرّار.
كان الحصى يطبخ على نار هادئة في ليالينا الطويلة فصار يعدّ في الميكروونت…. وبنكهات مختلفة.
السؤال الذي يبحث عن الإجابة باختصار: أين نقف نحن العرب من معضلة ثقافة (الاختصار) في عصرنا الحديث ؟ هل نسلّم أنفسنا لمكابسها ومطاحنها وآلات تعليبها فتختصرنا إلى مجرّد ظاهرة صوتيّة .. أم – وفي أحسن حالاتنا – ندفن رؤوسنا في ركام كتب السلف الصالح التي صارت تختصر في قرص مضغوط. أعتقد أنّ الأمر يحتاج إلى مؤتمر يجمع كل من يريد الإدلاء بدلوه من عشّاق الكلام (وما أكثرهم)، ولكن باختصار يا زملاء … ومن المستحسن أن يأتي كل صاحب مداخلة بميكروفونه الخاص ليتحدّث كيفما شاء، ربحاً للوقت.
*كلمة باختصار:
صراحة وجدت أنّ كتابة سطور مختصرة على هذه الزاوية، أصعب بكثير ممّا كانت عليه… ومع ذلك: يحيا الاختصار.