أطيافكتاب الموقع

الأصدقاء … أشقّاء الروح

الأصدقاء … أشقّاء الروح… لعلها سنة جديدة حافلة بأنداء ميمونة من الخير والمحبة والسلام تغمر العالم أجمع وكائناته كافة، مكللة بالعدالة والحرية والكرامة لكل شعب ولكل إنسان. وفي مثل هذه اللحظات العابرة تتوهج الذكرى: في سنة غابرة من القرن العشرين، جلس الشاعران العزيزان: ممدوح عدوان ونزيه أبوعفش يتسامران حول السنة الجديدة. سأل نزيه: كيف ترى السنة الجديدة؟ وماذا تقول فيها؟.. أجاب ممدوح بفطنته الحاضرة وطرافته المرحة: المهم أن تكون جديدة فعلا.. وليست من البالة! وكانت هذه الدعابة فاتحة سهرة معطرة بألوان شتى من الشعر وسبحات الخيال وخلجات الوجدان، وقد زادها نزيه بموهبته الموسيقبة ونغمات عوده الشجية متعة وألقا واستبشارا. ولم تكن هموم الوطن وأعباء الحياة وأحلام المستقبل غائبة عن السهرة…

والسنة الجديدة تذكرني بآخر سهرة أمضيتها في مثل هذا التاريخ، وكان مسرحها مطعم (سيف) في زقاق جانبي بين شارعي بغداد ومرشد خاطر، على مقربة من وزارة المالية، وذلك قبل ما يقارب أربعين سنة، مع ثلاثة أصدقاء يشكل حضورهم الأنيس البهي علامة فارقة في تاريخ دمشق: د. محمد محفل، فاتح المدرس، حسيب كيالي، ولكل أستاذ من هؤلاء الأعلام تجربة عميقة في مجال اختصاصه ونكهة طلية سلسة في أحاديثه وذكرياته العطرة في دمشق أو في بلدان الغربة. وهم جميعا يتمتعون بحس أصيل من الدعابة وخفة الدم وطلاوة الحديث، ولعل نشأتهم في عاصمة الشمال السوري، حلب الشهباء، أضفت على تحصيلهم العلمي والفني والأدبي ومخزونهم المعرفي العريق ألوانا من العمق التاريخي ونضرة اللقاء والثقافة العصرية، ذات الألق الفرنسي، وروعة البيئة الحلبية الممتدة من الفرات حتى ساحل المتوسط، بتربتها الزاهية بحقول القمح وغابات الزيتون.

الأستاذ محفل (أبو الكامل) مكتبة تاريخية مفعمة بكنوز الماضي العريق، فضلا عن ثقافته المعاصرة. منه سمعت الكثير عن إيبلا ومكتبتها التي تحتوي نحو 4500 لوح من مختلف العلوم والمعارف والآداب، كما تضم ألواحا تشبه الكتب المدرسية في أيامنا، إضافة إلى معجم بلغتين أو ثلاث. وهذا يعني أن الحريق الذي أضرمه الملك الآكادي نارام سين في المدينة كان له وجه إيجابي بالمحافظة على كنوز تلك المكتبة. ومن الوقائع التاريخية التي كان يرويها هذا الأستاذ الجليل أن ثورة سبارتاكوس التي منيت بهزيمة ساحقة وأدت إلى صلب الألوف من الثوار المهزومين ما بين روما وكابوا. ونتيجة لذلك، نشأت في سوريا ثلاثة مراكز مسيحانية (بالمعنى المثالي للكلمة) بين 73 و71 قبل الميلاد، ومن ذلك التاريخ بدأ النظر للصليب نظرة قدسية مقترنة بحرية الإنسان وكرامته وتضحياته في سبيلهما.

ونظرا لأن اسم أبرام أو أبراهم كان منتشرا في البلاد السورية، ومعناه (الأب الرحيم) فقد حاول زبانية الصهيونية ركوب الموجة واستغلال الاسم، رغم تشويه التاريخ ولي عنقه، لأن إيبلا قبل زمن إبراهيم بعشرات السنين، وقبل موسى بمئات السنين. ولكن علماء التاريخ والآثار، ومنهم مكتشف المدينة، العالم الإيطالي باولو ماتييه، قاوموا تلك الموجة من الادعاءات الباطلة ودفنوها في مزبلة التاريخ…

فاتح المدرس، الكاتب والفنان المحاط بهالة من الشهرة العالمية الوضاءة، كنت أزوره في قبو مرسمه بجانب نادي الشرق، مقابل نادي (الكوخ) الليلي. واللافت في لوحات المدرس، خلال السنوات الأخيرة من حياته، أن صورة وحش غائمة الملامح تغشيها ألوان شفافة كانت تحتل وسط العديد من لوحاته. وكنت أتأمل ذلك وأبادر إلى سؤاله: أستاذ فاتح، كأن خيال وحش خرافي يتراءى لي في وسط اللوحة، ماذا تعني به؟ وكان يضحك ويجيبني متسائلا: أحقا ترى ذلك؟ ولم يشرح لي ذلك إطلاقا لأن جمال الفن أن يبقى منفتحا على شتى المعاني والدلالات والإيحاءات. ولعل لوحة (الأم) من أشهر لوحاته التي لفت نظري إليها الصديق هاني الحاج قائلا: انظر إلى عينيها، ألا ترى أنهما تشعان بلهب وهاج؟ هذه اللوحة تمثل الفجيعة التي مني بها فاتح بمصرع والده، على يد أقرب الناس إليه!

حسيب كيالي كان نسيج وحده، وهو يمتاز بأسلوبه الساخر، وثقافته العربية والفرنسية الواسعة، إضافة إلى قبسات من الروسية. كان يضمنا مكتب واحد في جريدة البعث، وكان له زاوية يومية في الصفحة الأخيرة التي غلب عليها اسم (واحة الجريدة) لما فيها من منوعات. وحسيب (أبوزهدي) الذي اختار مثواه الأخير في ضاحية دبي، كان يميل إلى إحياء العديد من الكلمات المحكية ويسميها (من فصحى العامية). وفي تلك السهرة الفاصلة بين سنتين، تحدث قليلا عن رحلاته بين باريس وموسكو، ولم يتردد بإخبارنا أن له حبيبات غاليات في كل عاصمة زارها، ثم قال بأسلوبه الكوميدي الحميم: أرجوكم، إذا صادفتم أحدا من أبنائي في تلك المدن فبلغوهم تحياتي! لكنه لم يلبث أن استغرق في الشراب، وترك دفة الحديث دائرا بين محمد محفل وفاتح المدرس، وأنا أنعم بالإصغاء وأستمتع بغنى ما أسمع وأختزن في ذاكرتي نفحات غالية من عبق تلك اللقاءات، وما زالت أطيافهم ماثلة في فضاء الروح وسكينة الذاكرة.

كثيرا ما أردد في أحاديثي وكتاباتي أن (الأصدقاء أشقّاء الروح )، فإلى أرواح هؤلاء الأحبة الذي رحلوا إلى دار الأبرار، أرفع أسمى آيات المحبة راجيا أن يشملهم الباري بواسع رحمته وغامر لطفه ورضوانه…

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى