كلمة في الزحام

الرفيق الأفغاني

الرفيق الأفغاني …. أثناء دراستي في دمشق، أواخر ثمانينات القرن الماضي، اقتسمت غرفة السكن الجامعي مع طالب استثنائي ومدلل اسمه نور الله، من جمهورية أفغانستان الديمقراطية الشيوعية، فترة حكم الرئيس محمد نجيب الله آنذاك.

كان نور الله، قادما في منحة دراسية لتعلم اللغة العربية التي لم يتقن منها إلا المفردات النابية والشتائم الفاجرة حين يتعتعه السكر بعد زجاجة فودكا فينبري عندها، إلى السخرية من الدين وشتم “المتمردين الأفغان” كما كان يسميهم الإعلام الرسمي السوري.

كان يدفعني فضولي إلى سؤاله عن كل ما يتعلق بعالم الأفغان: اللغة الفارسية التي كنت أدرس مبادئها الأولى في جامعة دمشق كمادة اختيارية، شعر نساء البشتون الغامض الرهيب، أنواع العمائم وأغطية الرأس في تلك البلاد العجيبة، وحتى عن أصناف زهرة الخشخاش ومشتقاتها من الأفيون والترياق.

كان نور الله، غالبا ما يرد على أسئلتي متململا بإجابات مقتضبة ويستغرب اهتمامي بهذه الترهات كما يسميها. إذ يعرّف بنفسه كتقدمي يناصر الاتحاد السوفييتي ضد القوى الرجعية، حتى أني بالكاد، تعلمت منه صناعة الرز الأفغاني الذي يفضل عنه شرائح لحم الخنزير التي يأتي بها معلبة من السفارة السوفييتية.

الشيء الوحيد الذي يربط نور الله، المتمرد بتراث أجداده هو آلة موسيقية وترية قديمة يطلق عليها أفغانياً اسم “دلروبا” أي “ساحرة القلوب”.. وكانت بالفعل، ساحرة حين تمتزج نغماتها مع صوته الرخيم وهو مخمور في صورة ترتبط بتلك الأودية السحيقة التي سكنها الطاجيك والبششتون والتركمان والأوزبك، ولم تعد الآن تردد سوى صدى طلقات المدافع في قندوز و قندهار وبدخشان وكابول.

في تلك الغرفة الصغيرة الأنيقة التي تفوح منها رائحة الفودكا وبعض البهارات الآسيوية، بالحي الجامعي في دمشق، تعرفت إلى شيء من أفغانستان وإن كان بنكهة شيوعية.

تجاورت ثقافتان تفصل بينهما آلاف وآلاف من الأميال والأمزجة والأهواء الأيديولوجية، وجمعتهما دمشق وتفاصيل أخرى لا توصف بالكلام بل بالعطور والأنغام والأطعمة.

أعجب نور الله، بأكلة الكسكسي التي كنت أعدها على موقد كهربائي صغير، تعلق بطعم الهريسة التونسية، الشاي بالنعناع، وأحب أغاني صليحة والهادي الجويني، وأحببت أنا الرز المطهي مع اللحم والجزر، الكباب، وشعر نساء البشتون اللاتي لا ينتحرن بالرصاص، ولا بشنق النفس، فالسلاح والحبال من أدوات الرجال، وأجسادهن لا تجد راحة إلا في أعماق الأنهار.. “قفزة واحدة إلى الهاوية ويُغرق الماء كل الأحزان والرغبات” كما تقول إحداهن. وتقول أخرى ” يا إلهي، لا تدع امرأة تموت في المنفى، ستنسى اسمك، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة.. لن تفكر سوى بمسقط رأسها”.

صديقي نور الله..كن بخير أينما كنت.. وإن قتلك الطالبان فلا تترك آلتك لوحدها.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى