العلوم لا تنتهك الحرمات الإنسانية
العلوم لا تنتهك الحرمات الإنسانية.. إن مجرد مراجعة القرارات الصادرة عن المؤسسات الدينية عبر التاريخ الإنساني، والمتعلقة بقضايا اجتماعية ومعيشية، يحرك شعورا خفيا لدى المرء بالسخرية من فضول الكثير من رجال الدين آنذاك وهم يمتلكون اعتقادا راسخا مفاده أن البشرية ستصغي وتستجيب لأوامرهم وتفسيراتهم حتى نهاية الكون.
كم من قرار اتخذته المؤسسات الكهنوتية ودعمته بالنصوص اللاهوتية، وباركته بحضور الرعية والسلطات السياسية ثم أصبح مجرّد ذكرى لا تستحضر إلا للتندّر أو أخذ العبرة من التاريخ.
غريب أمر المؤسسات الدينية الرسمية، تعتقد أنها هي الوحيدة والمخولة للدفاع عن إنسانية الإنسان وصفاء عرقه، والتزامه بجملة القيم الأخلاقية والسلوكية التي تضمن استمراره. سؤال ربما غاب عن ذهن بابا الفاتيكان حين قارب عمليات الإجهاض الهادفة للتخلص من التشوهات الخلقية بالسياسة الهتلرية في الحرب العالمية الثانية، وهو: هل أن النازية التي مارست أبشع طرق التطهير والإبادة العرقية، كانت تفعل ذلك بدافع خدمة الإنسانية وتجنب معاناة الطفل والأم والأسرة أم بدافع عرقي حاقد، ينطلق من عقدة الاستعلاء التي استثمرت فيها حتى الدين نفسه.. ألم يكن الصليب المعقوف رمزا للنازية؟
يكاد يرتبط منع وتجريم وتحريم الإجهاض بالكنيسة الكاثوليكية دون غيرها من المؤسسات الدينية رغم أنه على نفس الدرجة من المنع، أكثر أو أقل بقليل في الطوائف والمذاهب الأخرى مع اختلاف طفيف في الأسباب والدوافع وتقدير النتائج والانعكاسات.
مؤسسة الفاتيكان لا تنفرد وحدها بهذه القرارات الحاسمة في ما يخص موضوع منع الإجهاض، وإنما تتأتى أهمية مواقفها وتصريحاتها من كونها تمثل رمزية كبيرة لثقل بشري ارتبط بدوره بدول كبرى وفاعلة في المشهدين السياسي والاقتصادي.
تسهيل الإجهاض وجعله سلوكا اعتياديا يتم في عيادات الأطباء مثل قلع ضرس، أمر لا تقبل به الأعراف الاجتماعية والأخلاقية.
التصريحات الأخيرة لفرانسيس الأول، بابا الفاتيكان، في ما يخص رفضه الشديد للسماح بعمليات الإجهاض التي تتمّ بعد أن تُبين اختبارات ما قبل الولادة احتمال إنجاب أطفال يعانون عيوبا خلقية، جاءت كصيحة فزع لا بدّ منها إزاء هذا التطور السريع والمدهش للإنجازات الطبية والعلمية، وذلك خشيةً وتنبها منه إلى احتمال حصول ممارسات لا أخلاقية وسط هذا الزحام الذي أحدثته الثورة الرقمية.
الأمر الدقيق الذي ينبغي إدراكه في كلمة بابا الفاتيكان، هو ليس الجانب الإخباري وما يحتويه من تأكيد على موقف طالما عرفت به الكنيسة الكاثوليكية حتى بات يميزها دون غيرها، بل التنبيه إلى قيمة الإنسان الأخلاقية والروحية في عالم الربوتات والتعامل مع الأعضاء البشرية كقطع غيار وسط أكوام “الخرداوات” التي راكمتها الحروب والكوارث والآفات.
لن يخرج الأيرلنديون أو غيرهم من الذين قالوا كلمتهم في تعديل قوانين منع الإجهاض في مظاهرات ضد بابا الفاتيكان، ولن يتوقف الأطباء عن إجراء العمليات التي من شأنها أن تمنع مجيء طفل مشوّه يعاني مرضا أو عاهة مستعصية، لكن ما هو كائن، وما يجب أن يكون هو أن تستمر المؤسسة الدينية في دورها الأخلاقي والإنساني في حرصها على بقاء الجنس البشري، كما يستمر العلم في فتوحاته الخلاقة، وتستمر المؤسسات الاجتماعية والسياسية في عملها لصالح المجموعة الوطنية في كل البلدان التي تنشد النمو والتطور.
ما يتضح في جملة الإصلاحات التشريعية التي تشمل مسألة الإجهاض، وتكتسح العالم المسيحي على وجه التهديد، هو أن الموضوع في السنوات القليلة القادمة، لن يناقش من وجهتي المسموح والممنوح أو الحلال والحرام، وإنما من خلال التوجه إلى فكرة جوهرية هي: كيف لعملية الإجهاض أن تجنب المشقة للأم والطفل والمجتمع بصفة عامة؟
أما الأكثر من ذلك كله هو متى نصل إلى عالم خال من الأمراض الوراثية، مليء بالأصحاء.. ولا حاجة له عندئذ إلى عمليات إجهاض من أساسها.
بعض الدول العربية خطت خطوات مهمة في سن قوانين تسمح بالإجهاض الذي من شأنه أن يحلّ العديد من المشاكل مثل القانون التونسي الذي يسمح لأيّ امرأة راشدة بلغت العشرين بإجراء إجهاض الحمل غير المرغوب مهما كانت حالتها الاجتماعية (متزوجة أو عزباء)، بلا مقابل مادي، ودون الحاجة إلى موافقة أي شخص.
بفضل هذا النص التشريعي تمكن المجتمع التونسي من تجنب مشاكل هو في غنى عنها، خصوصا ضمن ظروفه ومحدودية إمكانياته ثم أن الإجهاض -أولا وقبل كل شيء- قرار فردي يخص الأم ضمن محيطها الأسري وملابسات ظرفها وحياتها الخاصة، فلا يمكن بأي شكل من الأشكال تعميم هذا الأمر والحكم على فعل الإجهاض بمعزل عن المعني به وهي الأم وطفلها.ا.