الكمان.. صهيل الأوتار الجامحة وحنين الأخشاب المعتقة
ليس هناك في تاريخ البشرية ـ قديمها وحديثها ـ من آلة موسيقية أحيطت بهالة أسطورية وصلت حد حافتي اللعنة والتقديس، مثل آلة الكمان.. إنها عزف السماء، حنجرة الأقدار وقد تمثلها قوس “يذبح” وترا فوق كتف عازف يحمل الكون وهو ينحني الرأس والأذن والأصابع.. والألم.
لكم تمنيت شخصيا أن أسحر نفسي والأصدقاء والنساء عبر هذه الآلة الشيطانية، لكني وصلت متأخرا، وقال لي عتاة العازفين إن أصابعك قد تخشبت فاكتف بالكتابة والسماع والتذوق.
هذه الآلة المتكونة في صيغتها الحالية من أربعة أوتار ويتم العزف عليها بواسطة قوس مشدود الأوتار، ومصنوع من شعر حصان، تختلف عن مشتقاتها كبيرة الأحجام مثل التشيلو والقيولنسيل والكونترباص، في كونها ترقد بمنتهى الحميمية بالقرب من خد صاحبها وتتجاوب مع أدق وضعيات أصابعه إلى درجة مذهلة.. يكفي أن تغير مليمترا واحدا من المسافة فةق الأوتار حتى تمنحك نغما مختلفا يصل حد التناقض والتضاد.
إنها آلة الأحاسيس المتجاورة والمتنافرة والمتضاربة وقد تحاورت فيها أربعة أصابع مع أربعة أوتار وقوس واحد.. ألا يكفي هذا كي تلقب بالآلة الساحرة؟
ومهما يختلف المؤرخون في أن أوّل أوّل آلة كمان قد صُنعت في القرن السادس عشر في إيطاليا كما تؤكد على ذلك الرسومات التي تعود لعام 1530، فإن منهم من يوعز ذلك إلى أقدم بكثير، رابطا تاريخ تطور هذه الآلة بشبيهاتها ومثيلاتها في موسيقى الشعوب، ومنها الربابة في التراث العربي، والشرقي عموما.
شهدت عائلة الكمان العديد من التغيرات قبل أن تصل إلى شكلها الحالي الذي نعرفه. وفي أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر طرأ الكثير من التغيرات على هذه الآلة، فقاموا بتطويل ملعب الأصابع، وقاموا بتعديل العديد من أطرافها لتدعم الأوتار التي زاد عددها، لإصدار الصوت بشكل أجمل ومتقن أكثر. ومثل كل إنجاز بشري فائق الإدهاش والمهارة، وجاذب للمزيد من الإعجاب والمعجبين من عازفين ومستمعين، فإن الكمان قد خضع للكثير من التطويرات مع الحرص في الحفاظ على روحه وصوته وهيكله الذي لا تضاهيه آلة أخرى في الجمال والرشاقة.
يكفي أن الكمان هو الآلة الموسيقية الوحيدة التي تتكون من أكثر من سبعين قطعة، تركّب بصبر ودقة وأنّاة على أيادي أمهر الصانعين الذين يتوارثون صناعتها جيلا بعد جيل، ويحتفظون بسر المهنة في تواتر يبلغ حد الإدهاش.
الكمان بصيغة المذكر، والكمنجة بصيغة المؤنث، كما يحلو لأصدقائي العازفين من الشغوفين تسميتها، آلة ترقد على أسرار عجيبة وغريبة، وذلك بدءا من طبيعة خشب نادر من الصنوبر المعتق، ووصولا إلى صنف الأوتار التي تشد إليها، بالإضافة إلى كونها ـ وعلى عكس البيانو ـ تزداد رقة وحنينا كلما أوغلت في القدم.
يتم تصنيع آلة الكمان من خشب الصنوبر، ويتم دهن الآلة بطبقات عدة من طلاء مخصص لها وهو ما يؤثر تأثيرًا هامًا على نوعية الصوت، وكانت أسرة ستراديفاري هي الأشهر على الإطلاق في صناعة الكمان، إذ أنه حتى الآن لم يستطع صانعوا الآلات الوصول إلى ذات الجودة التي وصلت إليها أسرة ستراديفاري.
تمـيّزت في صناعة الكمان منطقة كريمـونا الإيطالية معقل صناعـة الآلات الموسيقية وكانت غرنيري من أهم الأسر التي اشتهـرت بصناعـة هـذه الآلات، خصوصـاً في القرن السابع عشر. إنما الأشهر
هي أسرة ستراديفاري. التي بفضلها بلغت صناعة الكمان أوج الكمال في أوائل القرن 18
وإلى الآن لم يستطع صانعو الآلات بلوغ ما بلغته هذه الأسرة من جودة تصنيع الكمان، خصوصاً في ما يتعلق بالطلاء الذي يغطي الآلة والذي لم يتمكن أحد حتى الآن من معرفة تركيبته. والجدير بالذكر أن آلات ستراديفاري المتبقـية حتى اليـوم، تعـرض في أعظـم المتاحف وتباع القطـعة منها بالمـزادات بمـلايين الدولارات.
ويقول خبيرو صناعة الكمان بأن دوزان الاوتار يتطلب مهاره في حد ذاتها… وبمجرد حصولك على الوتر تصل الى درجة النسبيه ، ستحتاج لتثبيت الوتر في لوحة المفاتيح لضمان عدم رخوته وضياع الدرجة .ويضيف أحد العرفين بالمهنة ” بعدما وصلنا الى درجة الصوت انها قريبة ، ستحتاج أيضًا بعدها ان تحرك منقى الصوت للحصول على الدرجة الصحيحة والسليمة .. والسبب انك ستفعل ذلك لتوزيعها بشكل متساو على الأوتار في الرقبه… وتطبق هذه العملية على جميع الأوتار”.
لا يمكن لك أن تتخيل غجريا دون كمان كما لا يمكن لك أن تتخيل كمانا دون روح وثابة وراقصة دون غجر وقمر وسهر. السؤال الأقرب إلى القول بمدى أسبقية البيضة عن الدجاجة أو العكس، يتلخص في سؤال شبيه ومستنسخ: من هو الأقدم، الغجري أم الكمان؟
لم يفارق الكمان موسيقى الشعوب القلقة والباحثة عن الاستقرار أو حتى تلك التي تحتفي بسكينتها واستقرارها عند مواطن الماء والكلأ وما تيسر لها من الحب. وبقي يستخدم في عزف الأغاني التقليدية في الموسيقى الإيرلندية، والمجرية ثم استمر استخدامه في عزف الموسيقى الريفية الغربية، والبلو، والجاز منذ ظهورها الأول.
قامت العديد من المدارس بتعليم العزف على هذه الآلة فأول مدرسة كانت للإيطالي جيمينياني، إذ كان أول من كتب كتاباً يعلم العزف على الكمان، ولا ننسى المدرسة الفرنسية – البلجيكية التي كان تضم أشهر العازفين مثل روديه، وبايو، ومن ثم جاءت المدرسة الروسية التي كانت على مستوى عالٍ بالنسبة للمدارس السابقة، التي لم تستطع منافستها حتى اليوم.
وكان من الطبيعي أن يكون لهذه الآلة صيت عال من الانتشار، على مستوى الصناعة التنافسية مثل الصين التي احتلت المركز الأول في تصنيع هذه الآلة وتصديرها فقد قامت بصنع 300000 آلة كمان في عام 2009، وتم تصديرها إلى أميركا وأوروبا، وذلك لما يتميز به الكمان الصيني من ثمن زهيد يتمكن من اقتنائه المبتدئون، على الرغم من وجود كمنجات صينية جيدة المستوى والصناعة في مدينة شنغهاي، الأمر الذي أثر سلبا على صناعات عرفت بسمعتها العالمية كالنموذج الياباني ونظيره الألماني.
الكمان آلة لها أسيادها ومروضوها عبر التاريخ فلا يمكن الحديث عن هذه الآلة الشيطانية دون التطرق إلى الإيطالي نيكولو باغنيني (1782 ـ 1840) الذي عاصر شوبان، وملأ الدنيا وشغل الناس بفضل براعته المدهشة في العزف وكذلك العبقري يوهان سباستيان باخ، والموهوب أندري ريو، عازف الكمان الهولندي الذي حقق شهرة كبيرة بسبب إطلاقه لأسطوانة “رقصة الفالس الثانية”، التي لاقت استحساناً كبيراً من الجمهور في جميع أنحاء العالم، وغيرهم من العازفين العباقرة التي مازالت معزوفاتهم تتردد حتى يومنا هذا.
قدّر للكمان أن يحاط بهالة من الأسطرة في التاريخين الحديث والقديم، فارتبطت هذه الآلة بملاحم إنسانية خالدة كحادثة غرق السفينة البريطانية ” تايتنيك” في بدايات القرن الماضي. وكان يعتقد أن الكمان الخاص بقائد الفرقة والاس هارتلي، فقد في الكارثة التي وقعت عام 1912 لكن دار مزادات هنري ألدريدج آند سون، قالت إن الآلة تم العثور عليها عام 2006 وخضعت لاختبارات مكثفة أثبتت أنها أصلية.
وقال أندرو ألدريدج من دار المزادات “كانت عملية فحص طويلة، العثور على الكمان أمر يكاد لا يصدقه عقل”
وأمضت دار المزادات سبع سنوات، كما أنفقت آلاف الجنيهات لتحدد أصل الكمان، إذ استشارت عددا من الخبراء من بينهم علماء شرعيون من الحكومة ومن جامعة أوكسفورد.
وأظهرت اختبارات مصلحة الطب الشرعي البريطانية علامات تآكل اعتبرت “متوافقة مع الغمر في مياه البحر”، بينما فحص خبير اللوحة على عنق الكمان ليقرر ما إذا كانت توافق عمر كمان هارتلي
وقالت الدار إن الآلة ذات الخشب الوردي بها كسران طويلان في هيكلها لكنها “في حالة جيدة بشكل لا يصدق” رغم عمرها الطويل وتعرضها لمياه البحر، لافتة إلى أنها تساوي مئات الآلاف من الدولارات.
وكانت العديد من القصص تناولت قصة الكمان، وأوضحت إحداها أنه عثر على جثمان هارتلي بكامل ثيابه مع آلته مشدودة إلى جسمه.
لا تزال تروى حقائق أشبه بالأساطير حول سحر هذه الآلة، فلقد عزفت مريضة بمستشفى كينكز كوليج في لندن على ألة الكمان خلال خضوعها لعملية جراحية لإزالة ورم من دماغها. وتم تشخيص الورم في الدماغ للعازفة المحترفة داغمار تيرنر،البالغة من العمر 53 عامًا في العام 2013 بعد تعرضها لنوبة أثناء أداء سمفونية.
وتم اتخاذ قرار إزالة الورم بعد استمرار نموه على الرغم من العلاج الكيميائي الذي بات يهدد منطقة الدماغ التي تتحكم في حركات يدها اليسرى الدقيقة. وبعد بدء العملية الجراحية تحت التخدير العام، استيقظت تيرنر لعزف بعض الألحان على الكمان بينما قام الجراحون بإزالة الورم، مما ساعدهم على تجنب إتلاف مناطق دماغها التي تم تنشيطها أثناء العزف.
ثمة من لا يصدّق أنه وبعد ثلاثة أيام من إجراء عملية ناجحة في المستشفى، حيث تمت إزالة 90 بالمئة من الورم، تمكنت تيرنر من العودة إلى المنزل لزوجها وابنها البالغ من العمر 13 عامًا.
أما في العالم العربي، فقد تم تطويع هذه الآلة إلى السلّم الشرقي على أيادي عازفين مهرة منذ بدايات القرن الماضي كالعازف المعروف باسم “الحاج سعد”، ويعد من أشهر الموسيقيين، إذ عزف خلف العديد من عمالقة الطرب ومن مختلف الأجيال، كأم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ، ومحمد عبده، ومحمد قنديل، ونجاة الصغيرة، وفايزة أحمد، وفريد الأطرش، وشادية، وهدى سلطان، ووردة الجزائرية.
ولا يمكن لمؤرخ الكمان في العالم العربي أن ينسى سامي الشّوا، حيث عزف عام 1928 أمام الملك والملكة المصريين في إيطاليا على آلة كمان قديمة ورثها عن جده الذي كان عازفًا للكمان، وأسس معهدا للموسيقى بالاشتراك مع الفنان منصور عوض. أما عبده داغر، فقد عمل مع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، حيث إنه تعلم الموسيقى على يد والده الذي كان موسيقيًا محترفًا بدوره وصاحب معهد متخصص بتعليم الموسيقى وله أيضًا مصنع لصناعة الآلات الموسيقية الشرقية في مدينة طنطا المصرية.
وفي تونس التي عرفت بعراقة فرقها الموسيقية وتميز عازفيها ممن تسنى لهم العمل مع أشهر الرواد في هذا المجال، لا يمكن للمرء أن يتجاهل واحدا مثل قدور الصرارفي (1919 ـ 1977) أو قامة مثل رضا القلعي، (1931 ـ 2004) الذي وقف على خشبة المسرح أول مرة و هو في سن السادسة عشر عام 1947 و قد عزف منفردا على آلة الكمنجة لينال إعجاب جمهور الحاضرين. و قد كان متميزا فريدا في عزفه و قادرا على التعبير بالآلة و منذ ذلك الحين، فتح باب النجاح أمامه على مصراعيه و بدأت طريق الشهرة و النجاح تشكل معالمها أمامه و بانخراطه في الوسط المحترف. عمل العازف الشاب ـ أنذاك ـ مع ثلة من كبار الموسيقيين في تونس على غرار ” التريكي ” و ” خميس الترنان ” بفرقة الراشيدية و الهادي الجويني وغيره في فرقة المغنية الشهيرة فتحية خيري (1918 ـ 1986).
كنت شخصيا قد كتبت سيناريو لفيلم روائي طويل مستوحى من حياة أحد المهووسين بآلة الكمان، ويدعى “الجرانة” وتعني في مرجعيتها الإيطالية “الضفدع” كناية على الكمان في شكله الأصلي. وكان البطل لا يملك من الآلة سوى القوس الذي يظل يعزف به في الفراغ ضمن إيماءات تبدو مضحكة لكل من يعرفه في حانة المدينة، لكنها تخفي ألغازا تتكشف تدريجيا مع الأحداث وما يقف خلفها من أسرار آسرة إلى درجة الألم الإنساني.
الكمان ليس مجرد آلة موسيقية تترجم مشاعر من يحملها بين الخد والكتف.. إنها نزيف جرح لا يندمل وأسطورة يرويها خشب الصنوبر المعتق وأوتار الخيول الجامحة.
قالها محمود درويش في أشهر قصائده: ” طباعة مفضلتي
الكَمَنجاتُ تَبْكى مَعَ الغَجَرِ الذَّاهِبِينَ إلى الأنْدَلسْ
الكَمَنجاتُ تَبْكى على العَرَبِ الْخَارِجِينَ مِنَ الأنْدلُسْ
الكَمَنجاتُ تَبْكى على زَمَنٍ ضائعٍ لا يَعودْ
الكَمَنجاتُ تَبْكى على وَطَنٍ ضائعٍ قَدْ يَعودْ
الكَمَنجاتُ تُحْرقُ غَاباتِ ذَاكَ الظلَامِ الْبعيدِ الْبعيدْ
الكَمَنجاتُ تدْمي الْمُدى، وَتَشُمُّ دَمِى في الْوريدْ
الكَمَنجاتُ تَبْكى مَعَ الْغَجِر الذَّاهبينَ إلى الأَنْدَلُسْ
الكَمَنجاتُ تَبْكى على الْعَرَب الْخارِجِينَ منَ الأَنْدلُسْ
الكَمَنجاتُ خَيْلٌ على وَتَرٍ من سرابٍ وماءٍ يَئنُّ
الكَمَنجاتُ حَقْلٌ مِنَ اللَّيْلكِ الْمُتوحِّش يَنْأَى وَيَدْنو
الكَمَنجاتُ وَحْشٌ يُعَذِّبُهُ ظُفْرُ إمرة مَسَّهُ، وابْتَعَدْ
الكَمَنجاتُ جَيْشٌ يُعَمِّرُ مَقْبَرَةً منْ رُخامٍ ومنْ نَهَوَنْدْ
الكَمَنجاتُ فَوْضى قُلوب تُجنِّنُها الرِّيحُ في قَدَمِ الرَّاقِصَةْ
الكَمَنجاتُ أْسْرابُ طيْرٍ تفرُّ منَ الرَّايَة النَّاقِصَةْ
الكَمَنجاتُ شَكْوى الْحَرير المُجَعِّد فى لَيْلَةِ الْعاشقَةْ
الكَمَنجاتُ صَوْتُ النبيذ الْبعيدِ على رغْبَةٍ سابِقَةْ”.