“الله يعطينا خير هالضحكة” الحبة تصبح قبة في المجتمعات المأزومة، ويتحول الأفراد في أوقات الشدة، إلى كيانات عدائية تتصيد هفوات بعضها بعضا وتلدغ بعضها بعضا بذريعة الوقوع في المحظور وباسم القضايا الكبرى.
الصواب ـ في رأيي ـ أن لا تكبّرها فتكبر. وأن لا تصغّرها فتصغر بل أن تضعها في سياقها الطبيعي دون زيادة أو نقصان.
هذا هو الانطباع الأول حين تداهمك أخبار وتفاعلات ومعارك وخصومات في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب. وعلى صفحات السوشل ميديا، حول ما جرى من خلاف بين ممثلين اثنين في كواليس مسرحية مصرية تعرض في السعودية.
الذي جعل هذا الاختلاف يظهر للعلن ويصنع اصطفافات وقراءات وتأويلات لا يتعلق بتقييم تلك المادة الفنية المعروضة. ولا مناقشة مضمونها ومحتواها الفكري ـ إن كان لها من محتوى . بل في الظرف العام الذي دار تحت سقفه ذاك الخلاف.
أما السؤال الجوهري فيتعلق ب”القوة” التي صنعت ذاك الخلاف. ثم حولته إلى معركة يتراشق فيها المختصمون بالعبارات الكبرى من قبيل “الوطنية” و”الخيانة” و”قضايا الأمة” و”رسالة الفن”.. وهلم جرا من تلك المصطلحات التي تحضر في الأزمات. أو يتم استدعاؤها مع كل عاصفة سياسية تتعلق بالقضية المركزية المتمثلة في مأساة الشعب الفلسطيني وصراعه مع الاحتلال الإسرائيلي.
ولكي لا نضع العربة أمام الحصان، ونناقش فكرة دون أحداث وسياقات. فإن الحكاية تقول إنه وقبل 3 أيام من انطلاق فعاليات موسم الرياض في 28 أكتوبر/تشرين الأول، نشر الممثل المصري محمد سلام الذي يشارك في مسرحية “زواج اصطناعي”، والمقرر تقديمها في موسم الرياض، فيديو اعتذر فيه عن السفر إلى الرياض والمشاركة في هذه المسرحية الكوميدية بسبب الظروف التي يمر بها قطاع غزة. وقال “لا أتخيل تقديم مسرحية ونغني ونرقص، وإخوتنا يقتلون ويذبحون. أشعر إذا فعلت ذلك.. فكأني خذلتهم ويكفي ما نحن فيه من سكوت”.
طيّب، من حقك يا أخ محمد، أن تعبر عن مشاعرك التي تبدو نبيلة وصادقة حيال ما يتعرض له سكان غزة من تنكيل وتقتيل وتهجير، لكن، هل أن امتناعك وتنصلك من الالتزام باللمشاركة في العروض، سوف يحرر غزة من معاناتها؟ وإذا أبديت رأيك الشخصي فيما يتعلق بجدوى المشاركة في هذه الظروف الصعبة التي أضفت على الجو العربي العام موجة من الغضب والحزن والاكتئاب. فلماذا تسيء إلى زملاء العمل وكأإنك تتهمههم سلفا بالاستهتار، لمجرد أن شاركوا في العمل؟
هل أن من ينظم هذه التظاهرة الثقافية أقل منك غيرة على قضايا الأمة، ويحاول تمييعها باستدعاء عرض كوميدي ترفيهي؟ وهل الحل في أن “نحط الحزن بالجرن” كما يقول أهل الشام، ونمكث نبكي ونندب حظنا لعل الله يفرجها وتنقشع الأزمة؟
أمر في غاية السهولة أن نستحضر العبارات الرنانة والخطب المؤثرة التي تستنهض المشاعر القومية والدينية، ونتهم الناشطين والإيجابيين وأصحاب اللمبادرات بعدم الاكتراث لقضية فلسطين، لكن الأصعب والأصدق والأقوى منه هو أن تمضي نحو الاحتفاء بالحياة عن طريق الفن كأقوى مظاهر التحدي.
لعل هذا ما جعل رد رئيس هيئة الترفيه في السعودية تركي آل الشيخ، شديد اللهجة، واصفا أصحاب هذا الخطاب بـالمزايدين الذي يستخدمون اسم المملكة، أو اسمه، أو اسم موسم الرياض كشماعة لتحويل الأنظار عن حدث آخر، أو وضع آخر”.
الممثل المصري بيومي فؤاد، عبر عن عميق استيائه من زميله الذي وقع استبداله بممثل آخر لاستكمال عروض موسم الرياض. ورأى في تصريحاته تجريحا شخصيا وتشكيكا في مواقفه الإنسانية. كما وتأليبا ضده في ظرف حساس. لكنه واجه موجة انتقادات من ممثلين وكتاب ونقاد في الوسط الفني المصري، والذين يجارون تحركات الشارع في تعاطفه مع قضية غزة. كالمخرجة المصرية كاملة أبو ذكري التي كتبت عبر حسابها على فيسبوك “الأستاذ الفنان الذي كنت واحدة من محبيه” … “عندما تعرض هذه التفاهة وجارك يذبح هو وأطفاله ونساؤه وتقول لي الفن … فلن أقول غير أن الإحساس والفن نعمة أنتم اخر من يتكلمون عنها”.
ربما خسر بيومي فؤاد، الآلاف من متابعيه على فيسبوك كما تؤكد بعض المواقع، لكن الحادثة تكشف عن إشكال كبير يتعلق بمدى مجاراة لفنان للشارع الذي غالبا ما تحركه المشاعر العفوية غير المستندة على وعي عميق بدور الفن ووظيفته. خصوصا في مجال التمثيل الكوميدي الذي مازلنا نعتبره ترفا زائدا عن الحاجة. وينبغي أن تنضوي الخشبات والمنصات في ثياب الحداد عند حصول أزمة ما.
“الله يعطينا خير هالضحكة” – هل من البديهي التذكير بنماذج فنية وثقافية كثيرة في البلاد العربية والعالم. وعبر تاريخها، تحدت الحزن والأزمات الخاصة والعامة بالمزيد من الفن والابتهاج احتفاءا بالحياة وإصرارا على البقاء أم أن العالم العربي مازال يخشى الفرح ويردد عند كل ابتسامة “الله يعطينا خير هالضحكة” .
بوابة الشرق الأوسط الجديدة