كلمة في الزحام

انا وصديقي نطير

انا وصديقي نطير…صمت الصديق المعروف بنكاته وخفة ظله، وبدا لونه يميل إلى الاصفرار بعد إذاعة النداء الأخير للتوجه إلى البوابة المؤدية إلى الطائرة (أو المصير المجهول)، وزادت من تطيره تلك اللافتة المكتوب عليها “بوابة الرحيل” بدل عبارة المغادرة، كما هو سائد ومعروف في بلاد المشرق العربي، فعلق متذمرا “أنتم التوانسة عندكم عربية عجيبة غريبة…ألم تجدوا كلمة ألطف من الرحيل؟”.

دخلنا نفقا رمادي اللون يؤدي إلى الطائرة فتساءل لماذا لا يأتوننا بالأوتوكار الزجاجي المريح، فنودع سماء تونس وهواءها بدلا من هذا النفق اللعين، ثم توقف عند عبارة “نودّع” وتشاءم منها مستدركا “على كل حال أنا راجع في الشهر القادم.”.

تابع تعليمات السلامة بانتباه شديد ثم طلب مني استبدال المقعد والجلوس مكاني إلى جانب الشباك وباب الطوارئ, قلت له “لم أسمع بأحد نجا من كارثة طيران بفضل هذه التعليمات المسجلة على شريط مهترئ، وتمثلها المضيفة وهي تتثاءب بكسل وروتين شديدين”, نظر إلي بانزعاج واضح يطلب مني السكوت وقد بدأت الطائرة تزيد من سرعتها استعدادا للإقلاع فأردفت “هذه أصعب وأخطر مرحلة معروفة في الطيران, كيف سيواجه هذا الحجم الهائل معضلتي الثقل والجاذبية؟”, كتم أنفاسه وتحركت شفتاه بأدعية خافتة، انتهت مرحلة الإقلاع بسلام وانطفأت الإشارات الحمراء، ففك الركاب أحزمتهم وبدأ أفراد الطاقم مرة أخرى يرحبون بالمسافرين ويستعدون لتقديم الوجبات، فتنفس صديقي الصعداء إلا أنني قلت له من جديد “هل تدري ما قاله لويس بونويل في مذكراته؟ قال “إنني أخشى من الطائرة عندما يكون كل شيء على ما يرام”، لا معنى لتسميتها بـ”الكوارث” إن هي أنذرتك أو توقعتها قبل حدوثها.

تمنى صديقي اللدود أن يرميني من الطائرة في تلك اللحظة، ثم تمالك نفسه وقال “إذا صار شي ـ لا سمح الله ـ ما رح أموت لوحدي”. هكذا يخفف المرء من قسوة الفاجعة وهول المصاب حين يقتسمهما مع الآخرين، ألم تقل الخنساء “ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي”. المطبات الهوائية كانت كثيرة، وبدأت بالتزايد مما جعل صديقي يحجم عن الأكل ويكتفي بالماء أو المشروبات “البريئة” الساخنة، وهو يراقب ابتسامات المضيفات فيستمدّ منها بعض الطمأنينة، ولا يعلم أن المضيفة لا تبتسم إلا في الحالات الحرجة كي تحافظ على الهدوء وارتفاع المعنويات لدى الركاب وبقية زملائها من أفراد الطاقم.

بدأت الطائرة بالهبوط التدريجي نحو مطار عمّان فانبسطت أساريره ونظر إلي نظرة الشامت لأنه سينزل، ويودّع سلسلة الخوف التي طوقته بها، أما أنا فسأكمل الرحلة إلى دمشق, قلت له “لا تبتهج كثيرا…ادع الله كي تنفتح وتنزل دواليب الطائرة أولا.. هل تعلم أن النسبة الأكبر من حوادث الطيران كانت بسبب الهبوط، ذلك أنّ الابتعاد عن الأرض أكثر أمانا من الاقتراب منها، هذا ما كتبه أنطوان سانت إكسيبري، وكان طيارا، ومات صاحب ‘الأمير الصغير’ ميتة النسور، بعد أن تحطمت طائرته في عرض البحر ولم يعثر له إلا على ساعة جيب”. لامست عجلات الطائرة أرضية المطار وصفق غالبية الركاب مهنئين أنفسهم بالوصول سالمين, نزل صديقي اللدود ليغادر في ما بعد إلى بغداد الملبدة سماؤها بالحرب، ساعتها خفت عليه، وبقيت منتظرا إقلاعا آخر وهبوطا آخر. الطائرة جعلت من الإنسان “سيد الوقت”، وبالإذن من ابن الفارض، وغيره من الصوفيين وأصحاب الكرامات في استخدام هذا المصطلح، فإن هذا الأمر صار حقيقة في عصرنا الراهن، وأصبح بإمكان الواحد أن يسافر “اليوم” ليصل “أمس”، كما هو الحال في الطائرات فائقة السرعة، والمسافرة في اتجاه شروق الشمس.

يعد زمن الرحلة من أهم العوامل التي يأخذها مسافر العصر الحديث بعين الاعتبار عند اختيار وسيلة النقل. وفي الوقت الذي توفر فيه الطائرات أسرع زمن للسفر، لا تزال الرحلة بالباخرة وسواها من وسائل النقل البري، تستغرق وقتا طويلا بالمقارنة مع الطائرة.

وتستغرق الرحلة على سبيل المثال بين لندن ونيويورك بالطائرة 12 ساعة تقريبا، في حين تحتاج الباخرة إلى حوالي 5 أيام لتقطع نفس المسافة، وهذا أمر لم يكن ليتخيله أو يحلم به إنسان ما قبل الطائرة. ينظر الكثير من الناس إلى بعض سلبيات الطائرة، إن وجدت، كما ينظر الخائفون من الصعقة الكهربائية، يهولون من إمكانية حدوثها، ويتناسون إنجازات هذه الطاقة المدهشة في بناء الحضارة الحديثة.

حوادث الطيران تستأثر باهتمام الإعلام وتثير مخاوف العامة لأنها كارثية، وتقتل أعدادا كبيرة من الناس بلا تفرقة وفي وقت واحد، وبالمقارنة، فإن إحصاءات وفيات الصدمات القلبية في الولايات المتحدة وحدها مثلا تتعدى 2200 حالة وفاة يوميا، ولكنها لا تثير مخاوف أحد، ذلك أنها لا تقع في وقت واحد أو في الموقع نفسه. حوادث سقوط طائرات الركاب مازالت نادرة، وتمثل خطرا لا يزيد على واحد من 11 مليونا للمسافر العادي، وبالمقارنة، فإن خطر الوفاة في حادث طريق يزيد على واحد من خمسة آلاف، ومع ذلك، فإن معدل الخوف من السفر الجوي يفوق القلق من قيادة السيارة.

التقدم التكنولوجي في صناعة الطائرات وفر لقائد الطائرة فرصا أكبر لتحديد وحصر تلك المخاطر، بحيث تمكنه من تفاديها وإدارتها بفعالية أكبر، وفي هذا الصدد أشار محمد الخاجة، نائب رئيس إدارة السلامة والمعايير في طيران الإمارات، أثناء ندوة أقيمت في هذا الخصوص، إلى أن تركيز قائد الطائرة ومساعده، أصبح ينحصر في عدد محدود من الأجهزة الرقمية المتطورة التي تقوم بالعديد من المهام وبدقة متناهية، وأصبحت عونا لطاقم القيادة في إدارة تلك المخاطر بتركيز وفعالية أكثر، ما يقلل من نسبة حدوث أخطاء العنصر البشري.

 

بوابة الشرق الاوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى