تحية إلى الكاتب محسن حكمت السوري
تحية إلى الكاتب محسن حكمت السوري .. أصارحكم القول أنّي أنطلق من مسكني كلّ صباح مترجّلاً إلاّ ممّا يركب رأسي وأبدأ في لعبة كنت أظنّها مسلّية و أحتار في تصنيفها إن كانت عادة أم إدمانا ,إذ أبدأ بقراءة هيئات ووجوه العابرين وأتسلّى بتلبيسهم أدوارا ومهنا وأسماء وحكايات قد لا تخصّهم بالتأكيد :
ـ هذا القادم من بعيد مثلاً و في هيئته الرثّة وبخطاه المتثاقلة لا بدّ أن يكون اسمه (عبد) مثلاً، ويكنّى بـ (أبي راتب ) في دمشق و (منجي) في تونس، خرج من بيته يبحث عن عمل ولم يوفّق في إيجاده إلى حدّ الآن. هو الآن يرمقني شذرا وربّما يحسدني على( اللّا بتوب) الذي أحمله على كتفي ولا يعلم أنّي اشتريته بالتقسيط وهو وسيلة الإنتاج الوحيدة لدي.
ـ هذه الفتاة اسمها لينا، يتيمة الأم، ذاهبة لاستقبال صديقها الجديد الذي تعرّفت إليه عبر الأنترنيت، وهي تخشى الآن أن يكون مثل السّابق. في شنطتها دفتر خواطر، وبعض نقود، وقلم حمره و أشياء نسائيّة.
ـ هذا الذي لا يمكن أن يكون اسمه إلاّ (معتز ) أو (جعفر) متخاصم مع زوجته هذا الصباح بسبب فاتورة الكهرباء، وهذه السيّدة اسمها(عفّت)، ذاهبة لقبض راتب زوجها التقاعدي وتفكّر في تغيير نظّاراتها وشراء منبّه، وهذا يفكّر في الانتقام من صديقه الذي هزمه البارحة في لعبة الطّاولة… الخ.
أصارحكم القول مرّة أخرى أنّي حاولت مراراً التخلّص من هذه العادة السيّئة فوجدت التدخين أهون منها.
حاول أصدقاء كثيرون إقناعي بأنّ هذه العادة حميدة وقد أفادتك فيما أنتجته من مسرحيات وقصص، ولكن..
ـ أريد أن أكون (سويّاً ) يا شباب ولا أحبّ التفكير إلاّ في نفسي!
ـ هذا قدرك ـ ردّ قريني ـ ولا مهنة ترجى منك إلاّ الكتابة.
الكتابة… من أين جاءت هذه البليّة!؟.. إنّها مثل الخلافة لدى الأتقياء والصّالحين (ليتني منهم): يغبطهم العامّة عليها ويشتكون لله و لأنفسهم تحمّل وزرها.
نرجسيّة المبدعين، شرف لا أدّعيه، وإن كان التوحيدي يلقّب الكتابة بمهنة الشؤم ولكن.. هل تولد المهنة مع الواحد أم يبحث عنها ثمّ يختارها أو يختارونها له ؟
الآن عرفت لماذا يتعصّب الواحد لمهنته ويحاول الدّفاع عنها بكلّ ما أوتي من شراسة,.. ذلك أنّه – ببساطة – يعرف أدقّ تفاصيلها وأتعابها ومن ثمّ يدافع عنها بفنتازيا وخيال مدهشين كبحّار ينجو من العاصفة بأعجوبة في كلّ مرّة.
الكتابة الإبداعيّة أيضاً مثلها مثل أيّ مهنة، لها أقسامها وتراتبيّاتها، فلا يمكن للبنّاء مثلاً أن يتجاهل وظيفة الدهّان أو البلاّط أو نجّار الباطون، كذلك ينفتح الشعر على الفلسفة وعلى فنون القصّ الدراميّ الأخرى.
إذا كان الشعر لحظة شرود ممتعة فإنّ الفلسفة لحظة تأمّل مدهشة، وتبقى الدراما لحظة وصول وربط ممكنة.. إنّها الوقوف بين الإمتاع والإدهاش وفنّ إطالة تلك اللحظة وكيفيّة جعل الواقع منطلقاً ومرجعاً.
يبقى فنّ الشعر أو(البويتيكيا) أهمّ مرجع وضعه الفيلسوف أرسطو للمسرح وكتاب أهل الصنعة وبوصلة الاختصاص صيين فكيف يريد بعضهم ويسعى لوقوع طلاق بائن بين الشعر والمسرح!؟
ليس من التعسّف الحسم بأنّ شعراً لا تشتمّ في ثناياه رائحة الدراما هو بالتأكيد قادم من شخص نظّام وقوّال و آفل، وأنّ مسرحاً لا تتذوّق فيه عذوبة الشعر هو فبركة كاذبة لواقع كاذب.
إنّ من يحاول الفصل بين الشعر والمسرح هو كمن يحاول أن يعمل مشرطه في فصل وجهي العملة من جهة سماكتها.
من حقّ كتّاب الدراما(الحقيقيين طبعاً) أن يعلّقوا لافتة على صدر بيتهم تقول: من لم يكن شاعراً فلا يدخلنّ علينا، ومن حقّ الشعراء، بل من واجبهم ، أن يعلنوا: من لم يكن دراميّاً فلا يحسبنّ علينا.
إنّ من يفصل بين الاثنين لهو كمن يفصل بين الخرّاط والنجّار. ألم يكن شكسبير شاعراً عظيماً وجاك بريفير دراماتورجيّاً مدهشاً، وشخصيّاً أعترف ب(بريخت) شاعراً لا يشقّ له غبار قبل أن يكون كاتب مسرح (هذا رأيٌ شخصي على كلّ حال).
يبدأ حسّ الكتابة لدى الواحد بهمهمات لا يعرف أين ستوصله من حيث الجنس الأدبي المتعارف عليه (مسرح، قصّة، شعر، فلسفة) ولكنّه لا ينتهي إلاّ كاتباً و إن ضلّ طريقه إلى حين نجّار أو حدّاد أو بنّاء وكذلك العكس…. رحم الله الكاتب الدرامي السوري الشهير الذي كان (منجّداً) للكراسي والأرائك والأسرّة.
لنسأل النجّارين الحقيقيين ألم يكونوا منذ طفولتهم يدقّقون في الكراسي والطّاولات التي نجلس إليها… إنّها المهنة التي تمتهننا ولا نمتهنها.