تونس ما بعد الثورة : لنا شهيدنا ولكم شهيدكم….
…(ألا ترى أنها ثورة تونس على تونس ..!؟) هكذا ما قال لي أحد المخمورين في شارع بورقيبة الشهير …وفي الهزيع الأخير من الليل والكأس والحيرة والانتظار… نعم… وبمثل هذه الطريقة يختلف التونسيون على كل شيء ’لكنهم يتفقون على شيء واحد، و هو أنّهم قاموا بثورة .
شارع بورقيبة المكتظّ بالمغازات الفاخرة والمرابع الليليّة المغرية، والذي يقارب ويجادل ويشابه جادة(الشانزيليزيه) الباريسية الشهيرة في فرنسا، أصبح اليوم محلّ تجاذبات سياسية ، و مسرحاً لمحاولة افتكاك واضحة من طرف الاسلاميين الذين أرادوا مؤخراً – وفي إحدى تجمعاتهم– أن يغطّوا بشعارهم القماشي الكبير مبنى المسرح البلدي الشهير الذي يتوسّط الشارع، وكأنهم يريدون بذلك اسدال الستار عن أجمل تركات الاستعمار الثقافية التي يتجاوز عمرها المائة عام.
لشارع بورقيبة في تونس دلالات كثيرة في الماضي الرمادي والحاضر الملتبس، أراده الزعيم النرجسي الراحل رمزاً للحداثة ومعانقة البحر ومن خلف البحر، بعد أن ورث منه شجيرات تحلّق فوقها فلول العصافير الهاربة من صقيع الشمال وباباً قديما يعرف بـ(باب فرنسا)، يتوسطه تمثال ابن خلدون فيما بعد، والذي قال فيه الشاعر الصديق (محمد صغير أولاد أحمد) ذات شتاء تونسي قديم وقاس: (يا ابن خلدون، المدينة أضيق من خطاك، فاخرج من برنسك الحديد وخاطب ذاك الوثن الجديد )…. في إشارة واضحة إلى تمثال بورقيبة الذي كان يمتطي حصانه ويتوسط ساحة افريقيا … تلك الساحة التي سمّاها (بن علي) ب (7 نوفمبر ) عقب انقلابه في 7نوفمبر 87، ثمّ استقرّت على ما هي عليه الآن: (الشهداء) أو (14جانفي \يناير) … لكنّ التمثال ظلّ موجوداً وحاضراً بقوّة في ساحة أخرى تقترب من ميناء (حلق الوادي) الذي حلّ فيه الزعيم التونسي مبشّرا بالاستقلال في خمسينات القرن الماضي.
ماذا تعني دلالة ورمزية شارع بورقيبة لدى مناصري النهضة وزعيمهم راشد الغنوشي ؟…
إنه الشارع الذي صدح فيه التونسيون بكلمة (ارحل) للشخص الذي جثم على صدورهم طويلاً، وهو الشارع الذي لم يعرف ملتحياً واحداً ولا منقّبة واحدة طيلة تلك الأيام التي هزّت العالم … بل كان جلّ المتظاهرين والمتظاهرات يخرجون من محلاّت ومقاهي شارع بورقيبة السافرة…والممتلئة حزناً وأملاً وتوجّساً وانكساراً .
أليس من المجحف – أو الصعب – مقاربة ما حدث في شارع بورقيبة إبّان الثورة بساحات القاهرة وبنغازي وصنعاء التي تحيط بها الصوامع ولا يخرج رجالها و(حريمها) للتظاهر إلاّ بعيد صلاة الجمعة، علماً أنّ العطلة الأسبوعية في تونس هي الأحد وليس الجمعة (على عكس كل البلاد الاسلامية) …!…أو ليس في الأمر سؤال يعيد النظر في سخريتنا من نظرية المؤامرة…؟!
قد نقدّر للأشقّاء خصوصياتهم …ولكن… ألم تحتفظ لنا ذاكرة الشاشات الإخباريّة بصور فتية وفتيات بعمر الزهور يصعدون – كالبراعم – فوق أعناق بعضهم بعضاً، ودون عقد وتحرّشات محتملة … ويهتفون للحرية والكرامة الوطنية ….كان يحدث كل ذلك في (شارع بورقيبة) العجيب والممتلئ بالمفاجآت .
يريد حكّام اليوم في تونس من الاسلاميين وشركائهم أن يحجّبوا هذا الشارع المتمرّد فيلبسونه نقاباً ويلصقون به لحية كثيفة، وهو الخالي أبداً من دور العبادة إلاّ من كاتدرائية قديمة يزورها السيّاح وبقايا الجاليات المسيحية في تونس.
اليوم ,وبعد أن كان لا يشقّ ولا يخترق شارع بورقيبة إلاّ عربات الميترو الخفيف ولقاءات العشّاق العابرة والعصافير الباحثة عن الدفء، صارت توقفه حركات المحتجّين على عيد العشّاق والكاتمين لأصوات ماتت دفاعاً عن حريتهم… (حريتهم في التنديد بحريتنا).
نعم، أيها الصديق المخمور الذي التقيته ذات ليلة دامسة في شارع بورقيبة، لقد ثار التونسيون على المسموح والممنوع، الحلال والحرام، وعلى حدّ سواء …وكأنّ الثورة لا تهدف إلاّ إلى الثورة، فيقتتل الثوّار عندئذ على (شهدائهم).. ويصبح للجندي المجهول أكثر من جهة مجهولة وقضية مجهولة وطلقة مجهولة المصدر والعواقب والتبريرات.
لا …,أيها الاسلاميّ الشريك في هذا الوطن الذي يشهد أن (لا اله إلاّ الله ) قبلك، دون عقد أو حاجة للصلوات، اتّق الله فيمن فكّ عقدة لسانك وجعلك تقول كلمتك من غير اتجاهات أو قطع لسان.
هل يستطيع الاسلاميون في تونس بهذا اللحاف الكبير الطويل الذي ألبسوه لمبنى المسرح البلدي في العاصمة أن يسكتوا الفن عن الكلام المباح، هل نعيد تقسيم مقابر الشهداء إلى شواهد مؤمنة وأخرى علمانية، وهل ثارت تونس من جديد ضدّ نفسها كي تنتقم من نفسها .
هو شارع يكاد يخلو من دور العبادة ويلتقي فيه التونسيون جميعاً كما التقوا ساعة قولهم الشهير(ارحل)، فلما تقطعونه اليوم بالصلوات ضد اخوتكم في التراب والدم… والتسبيح بقوله تعالى :(ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثمّ رددناه أسفل السافلين).
*كلمة في الزحام:
أعدمت الثورة الفرنسية خيّاط بدلة الملك …وها هي الثورات العربية وقد بدأت في بنصب أعواد المشانق لخيّاطي كفن الملك.