تين وزيتون وصابون
تين وزيتون وصابون.. كان الشاعر والمفكّر “” فرنسيس بونش” يتوقف في كتاباته عند كل ما يبدو للعيان واضحاً ويومياً واعتياديّاً، فيربكه ويثير فيه الشك بوابل من التساؤلات التفاعلية، تصل حد الريبة والفزع …
لا يهنأ له جفن لهذا الكاتب الفرنسي الفريد والذي عرف عنه العيّ والتلكؤ ـ لساناً وتفكيراً ـ حتى يعيد القارئ إلى أميته ويجعله شكوكاً متوجّساً إزاء أقرب الأشياء إليه. فكأنما أنت لست أنت وما تقوله ليس بالذي أردت قوله … وكأنما ثمرة التين البري التي تعرّ ف إليها في جبال الجزائر، كتب عنها الكثير وتعلّق بها إلى حد الهوس…. تختصر العالم بأسره .
زار هذا الكاتب “حلب ” في أوائل القرن الماضي وفتن بكل تفاصيلها و لكنه توقف عند معامل الصابون التقليدي الذي اشتهرت به المدينة وحافظت على سر صناعته خلف أسوارها وكأنه أحد مفاتيح فتنتها الساحرة .
أبدى “”فرنسيس بونش”” عظيم استغرابه من عمّال مصانع الصابون الذين يغسلون أياديهم بالصابون عند الانتهاء من عملهم في صناعة نفس الصابون …!..أي كيف للصابون أن يكون مادة للتنظيف والاتساخ في ذات الوقت ؟.. ألا يحيلنا هذا إلى مبدأ قانون الوحدة والتناقض وإلى عمق التفكير الوجودي والصوفي التي نشأت وتأست عليها فلسفات الشرق القديم .
هذا الصابون الذي استخدمه معظم ملوك وملكات فرنسا خلال القرون الماضية …. حتى أنّ الملك لويس الرابع عشر الذي كان يهتم بالثقافة والفنون أمر بإقامة مصانع في مدينة مرسيليا الفرنسية لانتاج هذا الصابون الذي يعتمد على زيت الغار الحلبي في العام ١٦٩٨ …..؟؟؟؟
ويعتبر صابون الغار الحلبي من أشهر الانتاجات السورية التي تم تصديرها من سوريا لمختلف أنحاء العالم … ولم تستطع دولة من الدول منافسة انتاج هذا الصابون لفرادة زيت الغار وزيت الزيتون بمناطق حلب وما جاورها كـ”إدلب ” و”عفرين “” السورية وهما المكونان الأساسيان لصابون الغار الحلبي ….
تجاوز عدد معامل الصابون في حلب ستين معملاً منها قرابة العشرين التي لاتزال تعمل على صناعة الصابون بالطرق التقليدية القديمة ….
وشهد إنتاج هذا الصابون تراجعاً ملحوظاً بسبب الأضرار التي أصابت معامله خلال الأحداث الجارية في سورية ولم يبق في سوق الانتاج سوى القليل جداً من هذه المعامل …..
يبقى شكسبير هو أهم من كرّم الصابون الحلبي عبر مونولوج طويل لأحد أشهر شخصياته بقولها ” والله إن صابون حلب لعاجز على غسيل هذا العار الذي تفوح منه روحك وتورّثه جبلاً بعد جيل ” .
كلمة في الزحام …
لن يغسل الصابون إلاّ الصابون …ولن يعيد حلب إلى حلب إلاّ حلب ….ولن تعود سورية إلى السوريين إلا بالسوريين ..كل السوريين .