حين تمسي الكوابيس أحلاما…
كتبت للصديق عادل حديدي حين أعاد نشر مجموعته القصصية اليتيمة “كوابيس “: ماذا يعني أن تعيد طباعة كتاب أكبر سنّاً من أبنائك، وأطول عمراً منك وأكثر يقيناً من لحظتك..؟!
ماذا يعني أن يراهن ناشر على (كوابيسك) قبل أحلامك، ويعيدك – مثل خبير تجميل ساحر- إلى سبعينيات القرن الحالم…. أليست الأحرف أكثر بقاء ونقاء ونضارة منك … أيها الذي بلغ من الكسل عتيّاً.
يشيخ الكتّاب… لكنّ الأحرف والقرّاء والناشرين والمعجبين لا يعرفون الشيخوخة، يتجدّدون بعد كلّ صفحة تقع بين السبابة والإبهام .. وتجحظ عيونهم فوق كلّ جملة كانوا يقرؤونها في شبابهم دون حاجز زجاجيّ من النظّارات الطبيّة.
إذا كان الحلم هو النظر من قربة مثقوبة فإنّ الكتابة هي النفخ في ذاك الثقب… أمّا الكابوس فهو إعادة النظر – وبأعين مغمضة – من خلال ذات الثقب.
عادل حديدي يشبه نحّاتي الإغريق، يصنع تمثالاً واحداً، مرّة واحدة .. وإلى الأبد.
بعد الكابوس تتحوّل اليقظة إلى حلم، أمّا بعد الحلم فيتحوّل الواقع إلى كابوس .. سنختار الحلم اليقظ، لأنّه يتسلّق أسوار الواقع .. ويسيّج نفسه بكوابيس الحقيقة .
(كوابيس)، مجموعة قصصيّة قالت كلمتها ولم تمض… إلى أين تمضي وكلّ الطرق لا تؤدّي إلاّ إلى عدم الرغبة في الكتابة وإعادة الأقلام إلى غمدها …و أوّل السطر.!
(كوابيس): مجموعة (حياتات) لا تتكرّر إلاّ بتكرّر حياة عادل حديدي التي لا أظنّه يقول فيها للزمان: (ارجع يا زمان).
(كوابيس): نظرة أمل إلى خيبات الأمل واحتفاء بالهزائم التي تليق بالمنتصرين على أنفسهم و أنانيتهم وخصوصيتهم…. وخبز أطفالهم… للأسف الشديد.
إنها العودة إلى الزمن الذي كان فيه نصف العالم ينام على وسادة واحدة، يستمتع بحلم واحد ويستيقظ على كابوس واحد…. ثمّ يعود إلى مفسّر أحلام واحد.
أخطر المقولات هي قول بعضهم:(كم بقي من الزمن للتراجع)… أمّا أصدقها فهي: (كم بقي من العمر كي نصرّ على نفس الأكاذيب، وإن كانت جميلة).
كوابيس عادل حديدي تشبه نظرته المتوجّهة إلى المبتهجين في الأرض وسخريته من كلّ المتوجّعين قبل فوات الأوان. … الأوان الذي ربّما قد مرّ من هنا ولم ننتبه إليه.
لم يشفق صديقي الكاتب يوماً إلاّ على مزاجه، لم يفرح إلاّ لكلمة حقّ بعد انتظار طويل … ولم يغضب إلاّ لفرح عابر.
يشبه ابن بلدته الفنّان التشكيلي المبدع (سبهان آدم) ابن الجزيرة السورية في النظر إلى العالم بابتسامة من لون التراب العبوس وسخرية النهر الذي سخر من كل الذي ظنّ نفسه ينظر إليه أو يستحمّ فيه لأوّل مرّة .
“الحسكة السورية ” تصرّ على عدم نسيان أبنائها، تلاحقهم في كوابيسهم ووجوههم المعمّدة بمائها وترابها وشمسها التي لا تشرق إلاّ فوق رؤوس الرجال.
“الحسكة” مدينة المدينين لها بالصفاء والمروءة والإخلاص للإخلاص… ومنهم “الفنان السمكة” يوسف عبدلكي.
التفرّد ميزة تمنحها المدن الموغلة في الحب والحزن لأبنائها المنتشرين في كلّ الاتجاهات مثل سهام تدافع عن مدينة واحدة، اسمها الآن وهنا.
التفرّد يزيد من حنق النمطيّة وعبدة الرأي الواحد… إنّه الإيمان بالاختلاف مثل فرسان تاهوا بعد أن عاهدوا أنفسهم على اللقاء.
(كوابيس) عادل حديدي في طبعتها الجديدة تشبه وجوه سبهان آدم حين تتعدّد دون تكرار، ذلك أنّ ماء الفرات الآن، لا يشبهه بعد لحظة .. وتراب البادية لا يشبه نفسه بعد عاصفة غاضبة.
نبّهتني كوابيس عادل ووجوه “سبهان” وسمكات وعصافير يوسف إلى ضرورة إعادة ما (قلته) من مسرحيات، لأنّ الذهب تحت يد الصائغ مادّة واحدة … لكنّها بآلاف الصيغ:
دملج من الودّ، خاتم من التذكّر … طوق من العشق وسلاسل من الأسر المستحيل…. إنّه اللحن الذي لا يبحّ صوته والناي الذي ينكسر حنيناً إليك بعد أن أقتلع من أحراشه … أيتها الحياة.
أيقظتني كوابيس عادل حديدي ووجوه “سبهان آدم” على حلم كنت أظنّه كابوساً وهو أنّ الصفعة توقظ النائمين والسكارى والذين أدمنوا الحلم الكاذب، إنّ التوغّل في رسم بشاعة هذا العالم – بالحبر أو بالكلمات- تجعل العالم أكثر رأفة بالذين تصدّوا له بأقلام وريش وأنغام.
شكراً للذين قال عنهم فيلمون وهبي وفيروز: (من عزّ النوم تسرقني..).