غربال الإعلام وشمس الحقيقة
غربال الإعلام وشمس الحقيقة.. أجمل ما في النكتة السياسية لدى شعوب الأنظمة القمعيّة أنّها من نوع (الستاندر), أي موحّدة المقاسات, وما عليك إلاّ أن تبدّل اسما بآخر, ثمّ تلبس القصّة إلى من شئت تجنّبا للمساءلة في بلد المنشأ … وإليكم واحدة من أطرفها وأشدّها طرحا للتساؤلات:
أعلن وزير الإعلام في (قهرستان) الخبر التالي : (لقد حلّ الزعيم العبقري الملهم في المرتبة الثانية بامتياز, بينما جاء خصمه في مرتبة ما قبل الأخير, فتقبّل منّا يا سيادة الرئيس أحرّ التهاني وأجمل التبريكات, أيها الرمز الخالد والمفدّى), هذا ما صرّح به (معاليه)حين كان يذيع نتيجة سباق ماراتونيّ خيري, دعائي وثنائي بين (زعيمه) وبين أحد أشهر العدّائين في العالم.
لم يحرّف هذا الوزير في ندوته الصحفية نتيجة السباق, بل هي كذلك فعلا, ولكن…الحق على من في هذه الحكاية المهزلة؟…على الكاميرات والإذاعات ووكالات الأنباء التي تنقل الخبر وتلمّع صورة الزعيم, أم على الجمهور الذي جاء مشجّعا ومتحمّسا لقائده (الشعبي) الظريف وهو يركض تحت أعين حرسه ومرافقيه المدجّجين بالمسدّسات التي تعلن بدء الانطلاق ومنتهاه …أم على العدّاء الشهير الذي (خفّف واستخفّ) من عقله ولقبه وقدميه … وحلّ يركض مع (زعيم ) سرق قوت شعبه تحت هتافات الثناء والإعجاب…؟!.
قد يكون الحق على من يقرأ هذا (الخبر العاجل) في الشريط الإخباري عند أسفل الشاشة (الوطنية), ولا يدير المحطّة بمجرّد كبسة من إبهامه, هل هو إدمان على تصديق الأكاذيب, رغبة في جلد الذات وامتناع عن مشاهدة الحقيقة –على ماهي عليه- عارية باردة كالفجر..أم هو الخوف الذي يستوطن أعمق أعماقنا.
لم يتسنّ لـ(غوبلز) النازي الشهير وصاحب مقولة (اكذب, اكذب …حتى تصدّق) و (ألمانيا فوق الجميع), أن يتعلّم من إعلامنا العربي كيفيّة الكذب (بصدق وقناعة وحقيقة), لم يسعفه عمره القصير أن يتتلمذ على أحفاد عمرو بن كلثوم لدى إعلامنا الرسمي في قصيدته الشهيرة:
(إذا بلغ الفطام لنا صبي *تخرّ له الجبابر ساجدينا
لنا الدنيا ومن أمسى عليها *ونبطش إذ نبطش قادرينا
ونشرب إن أردنا الماء صفوا * ويشرب غيرنا كدرا وطينا ).
… بربّكم هل رأيتم تكبّرا واستهتارا بالناس والمستضعفين أشدّ وأنكر من هذا الكلام الذي يجانب المفاخرة والعزّة بالنفس … لينزلق في وحل العنصريّة والكراهيّة البغضاء.
عفوا, أبا الطيّب المتنبّي الذي نحب عبقريته, ألست القائل: (لا تشتر العبد إلاّ والعصا معه…), عذرا عمرو بن أبي ربيعة, منك ومن غزلياتك, ألم تقل يوما في حبيبتك هند: (إنما العاجز من لا يستبد)؟
هذه باقة من تراثنا الذي ينضح قسم كبير منه بالرعونة ومدح الظلم وثقافة الاستبداد لحساب أهل السطوة والنفوذ, هذه جلودنا التي أدمتها سياط أهل السطوة, لفحتها شموس الحقيقة .. ولم نستطع أن نخرج منها حتى بعد سلخها.
هذه عيون (إعلامنا) الذي ينظر إلى بشاعة الواقع, ثمّ يحوّله إلى أكذوبة تشبه العجوز المتصابية الشمطاء, تمشي متبرّجة في عهر واضح وصريح.
ليس الأمر جلدا للذات التي لا تحتاج لجلد أكثر ممّا يجب, إنّما هو وقوف أمام مرايانا المحدّبة أو المقعّرة منذ أسطورة (سنو وايت) و قول أحدهم : (إنّها عنزة ولو طارت).
لماذا ابتلينا بإعلام يقبّح الجميل ويجمّل القبيح ..حسب ما تشتهي أشرعة ربّانه المجدّف عكس تيّار الحياة, لماذا يلطّف بعض (النزيهين) منهم الحقيقة ويحاولون تهذيبها, فيسمّون الهزيمة نكبة والنكبة نكسة والنكسة هفوة والظلم فسادا والفساد تجاوزات …والصراع الطبقي (عتابا) طبقيّا…!؟…هل هي الرغبة في رشّ السكّر على أطباق (…..)؟.
أسأل جاري في البناية عمّن سرق “إبرة القمر الأوربي” من صحني (الطائر) على السطح فيردّ بما يشبه الاستخفاف: (تكفيك قناة محليّة واحدة لمعرفة كل الأخبار)…أمنحه رزمة الجرائد التي أكتب فيها ولا أقرأها, يشكرني ثم يغلق الباب على نفسه وأغلق بابي على حيرتي لأبحث في جهاز الموبايل بعد انقطاع الكهرباء عن محطّة راديو ….أسمع (ضجّة في الخارج) , أعود لأسأله فيقول لي : (بسيطة…إنه مجرّد احتفال بعرس لدى الحي المجاور…الله يديم الأفراح).
ذكّرني الأمر بتلك الظهيرة التي دخلت فيها دكّان الحلاّق مكرها بعد أن حاصرتنا عصيّ البوليس في تونس داخل الأزقّة الضيّقة, سأل الحلاّق أحد المتحذلقين وهو يقرأ جريدة اليوم الرسميّة بينما كان جموع المتظاهرين يمرّون من خلف ظهره: (مالقصّة ؟!) , فأجاب: (لا شيئ ..الأمن مستتبّ والحمد لله…هذا ما تؤكّده جريدة اليوم على كل حال).
*كلمة في الزحام:
عفوا ,هذه المرّة, لن يسمع أحد كلمتي في الزحام …لأنّ أبواق الإعلام الرسمي قد غطّت على كل حرف فيها).