حين يتفلسف الحكّام ويسوس الفلاسفة…
حين يتفلسف الحكّام ويسوس الفلاسفة…أعتقد جازماً أنّ القصة الحقيقيّة للغراب الأعرج ,أو ذاك الذي نسي مشيته فصار أضحوكة بين الطيور هو أنه أراد يوماً أن يكون حكيماً وحاكماً في ذات الوقت …فأضاع الاثنين وحلّت به الكارثة.
قضت القاعدة عبر التاريخ أن يترجّل أهل الحكم والسياسة وأن يحلّق أهل الفكر والإبداع …وقدر الطرفين أن لا يلتقيا إلاّ على الأرض، في خدمة الأرض……. ولاشئ غير الأرض .
لا ضرر في أن يتمايل أو يتعثّر أو يركض أو حتى يرقص المترجّل، ولكن دون أن يترنّح أو يقفز…ولا مانع في أن يشطّ أو يستعرض أو يسدل أو يطبق جناحيه المحلّق ..ولكن دون أن يهوي أو يسقط في الفخاخ التي نصبها له الصيادون والمتربّصون .
إنها ـ على كل حال ـ تلك الثنائية الأبدية بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، فقطارات المجتمعات لا تسير إلاّ على خطين متوازيين وعلى نفس المسافة من التباعد والتقارب والتلازم والتواصل .
هذا ما جال في خاطري وأنا أعاين وأتابع المشهد السياسي والثقافي بتونس منذ أن أطلقت “الفصل المحيّر” في “جحيم الحريات” الذي لا بدّ منه نحو ربيع حقيقي لشعوب طال سباتها الشتوي حتى كدنا نظنها زواحف من ذوات الدم البارد في كهوف التاريخ .
انطلق التونسيون ينهشون لحم الحريات وينتقمون لسنوات الغبن مثل نمور في يومها التاسع، صار لكل واحد منهم منبره الاعلامي والسياسي المطوّب باسمه … حتى بتنا نخشى أن تكون له دولته الخاصة أيضاً .
أسال العمل الحزبي والسياسي لعاب الجميع وكان لهم ما يريدون من بلاتوهات تلفزية وحلبات صراع وتجاذبات ومماحكات، سرعان ما ملّها الناس أمام حجم الاحباط المتفاقم فانصرفوا عنها وبذات الحماس الذي اقبلوا فيه عليها نحو ما ينفع الناس ويمكث في الأرض وهو مشاغل العيش وحتى ما يخفّف من “مشاغل العيش ” كبرامج اللهو والغناء والمسابقات التي تبيع الأوهام .
كسدت تجارة النخب السياسية والثقافية أمام إعراض الناس عن بضاعتهم فبدؤوا بإنتاج خطاب يخلط الزيت بالماء ويحاول الجمع بين “الفيلسوف ” و”السياسي ” ضمن السلعة الواحدة وفي أسلوب لا يخلو من التهريج والفذلكة والسخرية مثل “النساء المتحذلقات ” في مسرحية موليير .
يطلّ عليك سياسي من الصفوف الأخيرة ويحاول أن يتعمشق ويتسلّق آيات كريمة، أحاديث نبوية، مقولات خالدة وقصائد مؤثّرة، والكثير من النظريات الغرائبية والكتب المنسيّة …كي يقنع جمهوره المتثائب بجدوى وأهمية ما يريد الذهاب إليه .
يفاجئك رجل أكاديمي و أستاذ جامعي أو حتى صحفي طموح وكاتب مغمور بتأسيسه لحزب يشبه صحن “السلطة ” ، حالماً بتوسيع صفوف طلاّبه وقرّائه وحاشداً سواد الناس إلى منبره في سبيل الوصول إلى سدّة الحكم التي صارت منخفضة جدّاً …و أكثر ممّا يجب .
الأمثلة مضحكة ومفزعة في نوّاب المجلس التأسيسي التونسي الذين أضحوا مادة للتفكّه …من شاعرة المجلس، إلى ملاكمه ومؤذّنه وفيلسوفه ومطربه ومهرّجه وحسنائه وشمطائه ..الخ.. وصولاً إلى رئيس الدولة الرافع رأسه أبداً نحو السماء في كل خطاب غريب الأطوار…وكأنّه يحنّ إلى الزمن الذي كان فيه يحلّق كمعارض وناشط حقوقي قبل أن يستبدل مشيته .
• كلمة في الزحام …اكتظّت البلاد بهذه النماذج و”الكاركترات ” التي لم تفلح لا في اختصاصها ولا في اختصاص غيرها فصار حالها كالبطّة التي تمشي ولا تركض، تطير ولا تحلّق، تسبح ولا تغوص …وتصدر صوتاً محيّراً يجمع بين القرقعة والتعيق والضجيج .
12.05.2014