خطّاط الشواهد
كنت أجالس جاري (أبو عبدو) خطّاط الشواهد القبور في مشغله الصغير بالحي الدمشقي الشعبي الذي يعجّ بالحياة. كنّا نحتسي الشاي مع بعض أحاديث تقطعها آلة الحفر … وعلى وقع حروفه التي (يدفنها) ازميله في الرخام بعناية وإتقان …. كنّا نتكلّم في كلّ شيئ …. ما عدا الموت.
كثيراً ما كان أبو عبدو يترك أسماءه ناقصة وشاحبة الحروف فوق الشواهد ليفتح طاولة النرد ويأخذني إلى هذه اللعبة الآسرة التي تجمع بين (المسيّر والمخيّر) في فلسفة الإنسان وعلاقته بالأقدار.
في دمشق يتجاور ويتحاور الأحياء مع الأموات دون وساطة أو ترجمان … إلاّ من الأشواق والترحّم وذكر المحاسن.
يأتي الزبائن إلى محلّ (أبو عبدو) – وعلى عكس ما كنت أتوقّع – بشوشين، ونشطين ومقبلين على الحياة مثل من يقصد دوائر النفوس والحالة المدنيّة .. مع فارق بسيط وهو أنّ هذه الأوراق الثبوتيّة غير قابلة للإتلاف وعصيّة على التزوير، يجادلون ويناقشون في نوعيّة الخطّ وشكله وحجم الشاهدة وصنف الرخام … وخاصة الأسعار.
أسماء كثيرة ترقد واقفة ومتّكئة على بعضها في دكان (أبو عبدو) مزهوّة بخطوطها الديوانية والكوفية وتنتظر أهاليها مثل أطفال في روضة أو حضانة…. وقد تناسى بعضهم أحقادهم الدنيويّة.
حكايات كثيرة تحتفظ بها ذاكرتي (الشاهدة) في ذلك المشغل الذي يرتزق فيه صاحبه من الأموات … الأموات الذين تفتقر أكفانهم إلى جيوب.
شاهدت زبائن بخيلين يجادلون في السعر، على عكس فقيدهم ذي الكفّ المبسوطة في معاشه كما يخبرني أبو عبدو الذي علّق مرّة على اسم مكتوب فوق إحدى الشواهد بقوله : (انظر إلى جمال هذا الخطّ، إنّه أكثر وجاهة من صاحبه وأكثر منه وسامة حين كان على قيد الحياة).
لمحت شواهد سميكة الغبار في ركن قصيّ من المحلّ وقد نسيها الورثة والأهل والأصحاب، تأمّلت في شواهد (بكر)، ناصعة البياض مثل رزم الأوراق القادمة إلى المطابع، جاءت لتوّها من معامل الرخام في انتظار من سيموت ويترك اسمه مصلوباً عليها ليسبقها تحت التراب.
اكتشفت أسماء مؤنثة غريبة، طريفة، عذبة وجذّابة لعجائز الحارة اللاتي كانت الواحدة منهنّ تعرف بالحاجة (أم فلان) وتقضّي العمر مخفيّة الاسم والجسم تحت عباءة سوداء….إلى أن توارى الثرى والنسيان.
هكذا يختار الإنسان ديمومة الرخام مرقداً لاسمه ويفضّل فتنة الخطّ وسحره مقاما لرسالته كخليفة في الأرض … إنّه هوس الخلود الذي لم يخلّده إلاّ الكتابة، تتوارثها البشرية كغنيمة وحيدة في معركة الحياة.
اقتادني أبو عبدو يوماً إلى ركن ركين وحصين من دكانه، فتح صندوقاً قديماً، أزاح كفناً أخضر اللون كان يغطّي شاهدة أنيقة الشكل، بهيّة الخطّ وقد كتب عليها اسمه بأنّاة وعناية وترك تحتها تاريخ الوفاة فارغاً ثمّ قال مبتسماً: (هل رأيت واحداً ممّن هم في علم الغيب، يخرج لنفسه (قيد نفوس) قبل ولادته ؟!… هذه شاهدة قبري، قد ذيّلتها بهذا البيت الذي اخترته من كتب أحد المتصوّفة .
كان أهم ما عرفته في تلك اللحظة أنّ اسمه الأوّل هو (عبد الدائم) .. وأنا الذي أناديه دوما (أبو عبدو) مثل بقية سكّان الحارة.
*كلمة في الزحام:
قصف الحي الذي يقع فيه دكّان الخطّاط (عبد الدائم) بجوار المقبرة، استشهد أموات كثيرون وهدّمت بعض القبور على رؤوس أصحابها… لكنّ الشواهد ظلّت واقفة … كذلك مازالت الأسماء والحروف على قيد الحياة.