مقهورون.. لكنهم ظرفاء
مقهورون.. لكنهم ظرفاء ..عندما كانوا يرسمون الحدود بين روسيا السوفيتيّة( الجبّارة آنذاك) وفتلندا جارتها الصغيرة الوديعة المسالمة، صادف أن مرّ خطّ الحدود الافتراضي فوق مزرعة فلاّح بسيط فقسمها إلى نصفين تماما، وبتساو مذهل، عندئذ اضطرّت الشرطة الستالينيّة أن تسأل ذلك الفلاّح – على سبيل الأخذ ب(حرية الرأي)!- :أيهما تفضّل,أن تكون مواطناً سوفيتيّاً ينتمي إلى دولة عظمى أم واحداً من رعايا دولة مستضعفة اسمها فنلندا ؟.. فرك الفلاّح كفّيه من شدّة البرد والخوف ثمّ أجاب: هل تسمحوا لي يا رفاق بالعيش في فنلندا ؟.
– نعم بإمكانك ذلك، شرط أن تجيبنا عن سبب هذا الاختيار المحيّر الغريب ..!
ردّ الفلاّح: يبدو لي أنّ الطقس في فنلندا أكثر دفئاً من روسيا يا سيدي….
هكذا تنتهي حكاية هذا المواطن المزدوج مع رجال السلطة الستالينيّة ب(تخريجة) شبه منطقيّة لتبدأ الأسئلة:
ترى ماذا كان يمكن أن يكون عليه مصير الفلاح الظريف لو صارحهم بحقيقة سبب الاختيار الغريب ؟..
الجواب : ربما لم نسمع بالحكاية أصلا، ودفنت مع صاحبها في أرض تلك المزرعة… وربما كانت من أصلها ذريعة لتأريخ تلك المرحلة التي اختصروها في طرفة يبتسم لها الظالم والمظلوم على حدّ سواء.
تذكّرنا حكاية الفلاّح (البرّيد) والذي خيّر دفء الكرامة الفرديّة على برد الانتماء لدولة عظمى، تذكّرنا بما ردّ به وزير دفاع بلد لا يملك أكثر من قطعتي سلاح على نظيره من بلد قويّ حين سلّم عليه الأخير باستهزاء واستعلاء واستغراب.
-لما الاستغراب يا سيدي..!، أنتم أيضا لديكم وزارتا عدل وحقوق إنسان في بلدكم .
هكذا تمسي الردود الطريفة أنجى وأنجع في المواقف الحرجة كما جاء في حادثة تحكيم أبي نواس بين الأخوين غير الشقيقين الأمين والمأمون في مبارزة شعرية وبحضور الرشيد وامرأته زبيدة أم الأمين.
نظم المأمون قصيدة سلسة، عذبة، لا تخلو من فطنة ومهارة، جاء دور الأمين فقال في مطلع ركيك يريد به التفاخر: (نحن بني العباس، نجلس على الكراسي…)
امتعض أبو نواس من هذا النظم الساذج ثمّ التفت إلى الرشيد وقال مصارحا :(هذا ليس شعرا). غضبت أم الأمين وأمرت بخلع نعلي أبي نواس لجلده وإدخاله السجن.
بعد أيام أصرّت زبيدة على تفوّق ابنها أمام المأمون وطالبت بإعطائه فرصة أخرى وبتحكيم من أبي نواس نفسه.
ألقى المأمون شعراً لا يقلّ جودة عمّا سبقه، جاء دور الأمين فقال شيئاً أكثر رداءة ممّا سبقه .
تأبّط النواسيّ نعليه وهمّ بمغادرة المجلس دون أن ينبس ببنت شفة، صاح الرشيد: إلى أين يا أبا نواس، نريد رأيك قبل أن تغادر.
ردّ المحكّم المغلوب على أمره: (إلى السجن يا مولاي، أظنّك عرفت رأيي).
لكم أن تتخيّلوا بقيّة الحكاية، ما الرأي الذي ساد في الأخير واقتنع به الجميع ؟:
-أبو نواس الذي صار مقاس قدمه 55 سنتمتر من كثرة الفلقة، وأضحى يعمل بالمثل القائل: (اربط الحمار مثلما يقول لك صاحبه)، أم زبيدة التي أعمت الأمومة وولاية العهد قلبها عن الحقيقة فأصبحت تشيه تلك الأم التي طرقت بأصابعها أمام ضيوفها على الخشب إعجاباً بـ(ذكاء) ابنها واتّقاء لعيون الحاسدين .. فهرع الابن(الذكي) إلى الباب يفتحه، ظنّاً منه أنّ طارقاً أمام الباب.. أما قبحاً وسماجة نظرت زبيدة إلى أبي نواس- العائد لتوّه من حبسه- تريد أخذ مشورة الرشيد الذي لا يريد إغضاب زوجتيه وولديه ومجالسيه، ولا يحبّ أن يطمس ذائقته في الشعر ويتحيّز للحريم السياسي.. ويمسك أكثر من جمرة
– الأمين الذي لا يريد أن يقتنع بأنّ الشعر ليس من مزاجه وكذلك الخلافة التي تسعى إليها أمّه…. أم المأمون الذي قبل بالدخول في مبارزة غير متكافئة لمجرّد الاستعراض والتحدّي ….أم الراوي الذي نقل الحادثة غير البريئة والتي لا تخلو من شعوبيّة واضحة تنتصر لابن الفارسية ضد ابن العربية الهاشمية، هل كان شاهداً عليها؟.. إذن.. لماذا كان خائناً لأمانات المجالس ؟.
تشبه حكايات المجالس المغلقة ما رواه لي صديق عن حادث مروري أليم أودى بحياة شابين على أحد الطرق السريعة. قال الشاب السائق للصديق الذي يرافقه: هل تراهن أنّنا سنصل في غضون ثلاث دقائق
ردّ الثاني: (مستحيل. جرّب على كل حال وسأعيّر الساعة)… ثم صارت الحادثة الفاجعة. ترى من أخبره بالحوار، أم أنّ في السيارة صندوقاً أسود !؟.
هكذا تروى الطرائف عن الألم كي نتحمّله.. ويعصر الليمون فوق الطعام الدسم كي نتمكّن من هضمه.
*كلمة في الزحام :
لم تكن هذه السطور إلاّ ذريعة للهروب من الكتابة عن وجع السوريين وجراحهم أمام هذا الصمت المطبق عليهم…
السوريون – والحماصنة منهم على وجه الخصوص – مازالوا يروون النكات عن أنفسهم وهم يقولون : نعم، نحن متألّمون لكننا مازلنا ظرفاء ونعشق الحياة.