كتاب الموقعكلمة في الزحام

هذا وجه الضيف…

هذا وجه الضيف…

*إلى صديقي وجليسي، ناطور البناية التي أسكنها في دمشق.

*الضيف في يومه الأول – مثل المضيف- بشوش المحيّا، أنيق الهندام، معتدل الجلسة، معدّل الكلام، واضح الابتسامة، حليق الذقن، مقلّم الأظافر، هادئ الصوت، شديد التهذيب، قليل الأكل والمحادثة، كثير الاستماع والملاطفة … ويهزّ بالموافقة عن كلّ شيء.
للضيف في كلّ مكان هيئة واحدة، يعتلي صدر المجلس مثل ملك، مثل أيقونة تمنعك هالتها من التدقيق في تفاصيلها حين تعرف سلفاً ملامحها الطيّبة … إنه مثل رائد فضاء يطلّ من داخل كرته الزجاجية فلا تهتمّ لقامته أو لون عينيه.
المضيف في يومه الأوّل يكاد يستنفذ كلّ عبارات الملاطفة وأفعال التبجيل والتفضيل التي يحمرّ لها وجه نزيله…. هل رأيتم شيئاً أكثر وداعة وأنساً من وجه الضيف … في يومه الأوّل.
*الضيف في يومه الثاني يستيقظ مثل أمير، يخرج من حمّامه الصباحي المنعش نحو مائدة الإفطار العامرة فيسأله أهل الدار إن كان قد نام جيّداً، يقولون له (خذ راحتك,البيت بيتك)، ثمّ ينصرف بعضهم إلى العمل وهم يعتذرون.
يبدأ بالتنقّل في أرجاء البيت دون حاجة إلى طلب الإذن، يبادر بفتح الأحاديث والثلاّجة، يبدي الملاحظات والاقتراحات حول قضايا عامّة … ثمّ يلامس بعض الخصوصيات كأن يدخل المطبخ أو يغيّر من المحطّة التلفزيونية أو يجري مكالمة من هاتفهم الأرضي أو يمدّ يده لتصفّح ألبوم العائلة.
قد يتململ من ضجيج الأطفال ويجهر برأيه في الطعام وأثاث البيت .. ويقاطعهم عند الحديث.
المضيف في يومه الثاني يتناول مع نزيله عشاءً اعتيادياً، يتوجّه بالحديث إلى باقي أسرته وقد يفتعل معهم مشاجرة، ينظر في ساعته ويبدأ بالتثاؤب .. ولا يعير اهتماماً كبيراً لكلام ضيفه أو يعارضه في وجهة نظر… ويبدأ الاثنان ساعتها بتبادل عبارات الصمت.
تبدأ الكلمات المقتضبة بالظهور … وابتسامات المجاملة بالاختفاء.
*الضيف في يومه الثالث يلقي النكت فيضحك لها وحده، يعطس فلا يشمّطه أحد، يقصد المطبخ لإحضار الفطور بنفسه، وقد يجلي الفناجين والصحون فلا يقال له :(خلّي عنّك).
الضيف في يومه الثالث يرتّب فراشه ويكوي ملابسه بنفسه منتعلا(الشحّاطة) وقد تخلّى عن أناقته الأولى، بل وقد يقترح المساهمة في مصروف البيت فيقبل المضيف ذلك بعد اعتراض شكلاني وخفيف.
قد لا يتردّد الضيف في استدعاء ضيف له عند مقرّ إقامته…. ويطلب من أهل البيت القيام بواجب الضيافة وحسن الاستقبال.
المضيف في اليوم الثالث يبدأ حديثه بقوله: (لا شكّ أنك قد اشتقت لأهلك وبلدك، لا تنس أن تبلّغهم السلام) وينهيه بمدح مآثر الاستقرار وذمّ مثالب السفر والاغتراب.
يأتي لضيفه بهدية رمزية ليذكّره بضرورة الرحيل، إلاّ أنّ الثاني قد يتمادى ويطلب منه قرضه نقودا لشراء هدايا أكثر (وجاهة) لأسرته ومعارفه.
يتولّى المضيف مهمّة السؤال عن توقيت انطلاق وسائل النقل ومواعيدها .. وقد يثني أمام نزيله عن فوائد السفر الباكر.
*الضيف في يومه الرابع: يستيقظ صباحاً فيجد حقيبته في انتظاره ولا يستمع من مضيفيه إلاّ لعبارات سريعة ومكرّرة مثل: (توصل بالسلامة، سلّم ع الأهل … رح تترك مكانك).
…وبالفعل، ترك الضيف مكان جلوسه ونومه وحتى أكله لضيف عابر جديد … إلاّ أنّه لم يغادر، لقد صار يسكن غرفة الناطور ويعمل على تلبية حاجيات أهل الدار وضيوفهم منذ أربعين عاما.
ها هو الآن ينتعل نفس الشحّاطة، يكنس الأدراج، يحمل أمتعة القادمين والمغادرين، يسهر على خدمتهم وينظر إلى حقيبته الصامتة تحت غبار الأيام وقد حوت تلك (الهديّة الرمزيّة) التي تلقّاها من مضيفه المتوفى منذ ما يقارب الأربعين عاماً.
الحقيقة أنّ ضيفنا هذا ليس ضيفاً، فلا سبيل له كي (يعبره)، ولا أهل له كي يعود إليهم محمّلاً بالهدايا ولا بلاد له كي يهزّه الحنين إليها.
فتح ضيفنا هديته فوجد دفتراً بكراً وقلماً ناشفاً، خطّ –مجازاً- هذه السطور:
هذا وجه الضيف، وقد بلّله ماء الخجل المزمن ونمّشته الأهبة الدائمة للرحيل.
اختفت تجاعيده تحت مكواة الخوف والانتظار، نسي الغضب وأدمن الاعتذار.
بقي مبتسماً وملوّحاً بيده منذ لحظة المغادرة … بقيت عقارب الساعة في المحطّة تنتظر عودته منذ قراره بأن يكون مؤدّباً.
ليس للضيف إلاّ حقيبة وحذاء … وابتسامة يخلعها عند النوم وأمام الكأس العاشرة.
وهذا وجه الضيف … حين لا تروق له سماجة أهل الدار.

كلمة في الزحام:

ناطور البناية صار “ضيفاً” لدى ناطور بناية أخرى في مدينة أخرى .

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى