كتاب الموقعكلمة في الزحام

كنّا قيدا ينكسر

كنّا قيدا ينكسر … تمرّين جانبي الآن يا ذكرى استقلال تونس كما “يمرّ مديون خائف و مستضعف أمام حانوت الحارة ” على حد تعبير محمد الماغوط .

عجباً , كيف لهذا اليوم أن يصغر ويضمر حتى يمسي مجرّد ورقة رقيقة و باهتة في روزنامة رخيصة وتتعرّى على جدار غرفة النوم ! …أين في سماك ذيّاك البريق يا سليلة النسور و أنشودة الشمس .؟

كان أبي في الأمس القريب يخصّ أختي الأكبر مني بتبجيل خاص على اعتبار أنها ولدت في يوم و سنة الاستقلال فيشتري لنا في عيد ميلادها الكثير من الحلوى بألوان علم البلاد ثم ما يلبث أن يعاقبنا بسماع الأناشيد و الأغاني الوطنية التي لم أعد أحفظ وأعشق منها غير تلك التي كانت تصدح بها السيدة عليّة في معركة بنزرت الشهيرة والتي كتبها الشاعر الغنائي التونسي عبد المجيد بن جدو ويقول فيها:

“” بني وطني يا ليوث الصدام وجند الفداء
نريد من الحرب فرض السلام وردّ العداء
لانتم حماة العرين أباة
نشدتم لدى الموت حق الحياة …مدى ومدى
وكنتم تريدون سبل النجاة ورسل الهدى
فلو كان للخصم رأي سداد
وعقل يميل به للرشاد
ويردعه عن ركوب الردى
لما اختار نهج الوغى والجلاد
وسالت هباء دما الابرياء
أردنا الحياة ورمنا العلاء
وفي حقنا لانخاف البلاء
ومن دمنا قد صبغنا رداء
رفعناه فوق البلاد لواء
فماس به الافق حين بدا
فإمّا حياة و إمّا فلا ”

كان أبي يذهب بعيدا في ” تاريخه التناسلي ” فيوثّق لميلاده بالثورة البولشيفية , بلوغه بأزمة 29 وخميسها الأسود , زواجه باندلاع الحرب العالمية الثانية وميلاد ابنته البكر بتاريخ انتهائها , ثم الثانية بالنكبة ومذبحة دير ياسين والثالثة بانقلاب الضباط الأحرار في مصر ..مرورا بالعدوان الثلاثي ثم الانفصال الوحدوي الشهير ووصولا إليّ كآخر عناقيد غضبه قبيل النكسة و بعيد مصرع أيقونة الثورات ” ارنستو تشي غيفارا “.

كان أبي يجمع بين أمي و جهاز الراديو ,يدمن الأخبار ,يتحرّش في العمل النقابي ولا يتعاطى السياسة كي لا يقع في شراكها ….كانت تكفيه صورة جدي على صدر البيت و في الشارع الذي يمشي فيه دون عكاز.

كان عيد الاستقلال فرحا يشبه قيدا ينكسر و براعم تتفتّح في رياض مقابر الشهداء , ولم تكن العائلة وحدها تزور ضريح جدي بل البلاد بأسرها .

تمرين إلى جانبي الآن يا ذكرى الاستقلال مثل أرملة متبجحة أمام زوجها الذي لم يفارق الحياة ومازال على قيد الشهادة و الفحولة و …””لكن “…حاولت اليوم أن أصنع لي و لأطفالي تاريخا موثقا على طريقة أبي فلم أستطع

كلمة في الزحام

كنا نفرح لعيد الاستقلال لأنه يوم عطلة.. صرنا لا نبالي به اليوم , فأيامنا كلها قد صارت عطلة يا أيها المعطّلون بالكسر والفتح.

 

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى