كلمة في الزحام

ما أوحش الحياة خارج السجن

ما أوحش الحياة خارج السجن …حين أهدى الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش لصديقه الروائي الكردي السوري سليم بركات، قصيدة تحمل عنوان “ليس للكردي إلا الريح”، وقف العالم إجلالا وتقديرا لهذا الحنو الإنساني الكبير إزاء إنسانية القضية الكردية التي يستمر حكام أنقرة في طمسها منذ أنظمة الحكم العسكري إلى النظام الإخواني الحالي في نسخته الأردوغانية. الثقافة الكردية قاومت القمع والتهميش ،عبر التعبير عن معاناة أبنائها، وبطريقة قاربت الملحمية كما هو الحال في فيلم “الطريق (يول)” للروائي والسينمائي الكردي يلماز غوني (1937 ـ 1984)، الذي تمكن من إنجاز شريط روائي امتدت كتابته من زنازين السجون التركية حتى وصلت شاشات مهرجان كان في فرنسا حيث نال السعفة الذهبية باقتدار، وفي سابقة تستحق بذاتها، صناعة فيلم يروي ظروف انجاز هذا الفيلم.

ليس أمام من انتهى لتوه من مشاهدة روعة وهول “الطريق” الذي عُرض عام 1982إلا استحضار ما قاله درويش لبركات ” يا ابني الحُرّ! يا كبش المتاه السرمديّ. إذا رأيتَ أباك مشنوقاً فلا تُنْزِلْهُ عن حبل السماء، ولا تُكَفِّنْهُ بقطن نشيدك الرَّعَوِيَّ. لا تدفنه يا آبني، فالرياحُ وصيَّةُ الكرديِّ للكردي في منفاهُ، يا اُبني .. و النسورُ كثيرةٌ حولي وحولك في الأناضول الفسيح”.

” الطريق” هو عبارة عن 5 طرق وعرة و5مصائر فجائعية ل5 شخصيات كردية، أغلبها ينحدر من عمق ذلك  الريف البائس الذي تحكمه علاقات إقطاعية متخلفة. يغادر كل واحد من هؤلاء الرجال السجن بصفة شرطية ومؤقتة، ولمدة أسبوع واحد، من أجل زيارة أهله، وفق القوانين الجزائية التركية القاضية بمنح هذا “الامتياز” لمن قضّى ثلثي مدة عقوبته.. وهذان “الثلثان” قد يعنيان عقدين أو أكثر من الزمن، خصوصا للمساجين السياسيين أي أن “المتمتع” بهذا الامتياز سيقف عند مصير مجهول وغير متوقع لأفراد أسرته طيلة فترة حبسه ثم أن عودته إلى السجن بعد هذه “المكافأة” المشروطة، أشد مرارة ورهبة من أنه لو ظل محبوسا. هذا بالإضافة إلى السجن الأكثر قسوة، والذي يكافئ بزيارته لمدة أسبوع، وهو سجن المجتمع المثقل بالتقاليد البالية والمكبل بالأعراف الجائرة مما يجعل “الطريق” واحدة وإن اختلفت المصائر والنهايات لشخصيات يلماز غوني، في فيلمه الذي ينضح شعرية قاتمة في جماليات حزينة ومرعبة، يصنعها الواقع وتخوضها أرواح قلقة ومتمردة.

أما الاحتمال الأكثر انتسابا للمجهول في قصة السراح المؤقت لكل شخصية من شخصيات هذا الشريط الحابس للأنفاس، فهو أن ” ينجو” الواحد من رعب مصيره في الخارج بالعودة إلى السجن.. إن الواقع هو الجدار الأكثر فتكا ووحشة من السجن.. وهو ما عبّر عنه غوني، في فيلمه الذي حمل عنوان “الجدار”.

لا يكاد الواحد من هؤلاء السجناء الطلقاء ينتبه إلى المدة التي قضاها في السجن إلا بعد أن يقف عند ما آلت إليه الأحوال والمصائر لدى أفراد أسرته أو من تبقى منهم أثناء سراحه المؤقت طيلة ذلك الأسبوع المشؤوم من تلك الحرية المزعومة، وكأن بضعة الأيام التي سيقضيها خارج جدران السجن هي بمثابة العقوبة المضافة، إذ لم تزد الأمور إلا بؤسا وتعقيدا، فهذا سيد علي يفاجأ أن والده قد تزوج من امرأة ثانية وزوجة أبيه أنجبت ولدا وهو لا يعلم ثم تخبره والدته بأن زوجته زينه  قد جلبت لهم العار بعد امتهانها الدعارة مما يضطر الوالد إلى أخذها إلى القرية. وبعد أن يسلك سيد، طريقا ثلجية وعرة تسببت في عجز حصانه عن مواصلة السير فيجد نفسه مضطرا لقتله. يصل القرية لملاقاة زوجته مع ابنها فيجدها محبوسة في زريبة المواشي في انتظار قدومه وغسل عاره بيديه حسب أعراف القبيلة، لكن سيد يلين قلبه ويسامحها بعد أن تزينت له قبل  قتلها برضاها. وفي طريق العودة، تلاقي الزوجة نفس مصير الحصان فتتجمد من البرد، ولم تنفع معها جلدات الزوج بغية إنقادها، في مشهد درامي أخاذ. تموت الزوجة في إحدى المستوصفات بعد أن حملها الزوج على ظهره مسافة طويلة تحت الثلج.

أما الشخصية الثانية في الفيلم فهو كردي من ديار بكر، اسمه محمد صالح، سجن بسبب ضلوعه في عملية سرقة إحدى محلات المجوهرات وهو متزوج من أمينه ولديه ولد وبنت صغيران وزواجه تم بدون تسجيل رسمي في الدولة، محمد صالح يحب زوجته وهي تحبه، لكن أهلها لا يطيقونه لأنه متهم بتخاذله وعدم دفاعه عن شقيق زوجته الذي قتلته الشرطة أثناء عملية السطو. يتمكن محمد صالح من العودة بزوجته إلى القرية رغم عدمموافقة أهلها، وفي طريق العودة يضبطه المسافرون في القطار  متلبسا بممارسة الجنس  مع زوجته في احدى المقصورات فينهالون عليه ضربا. وبعد أن ينقذه العمال يدخل شقيق زوجته عربة القطار ويطلق الرصاص على الزوجين فيموتان ويبقى مصير الطفل مجهولا.

عمر، كردي من قرية تابعة لمدينة اورفا. يظهر على الشاشة كلمة كردستان في إشارة لوصول أحد أبطال الفيلم إلى المنطقة التي يسكنها الأكراد في تركيا. وتجدر الإشارة إلى أن هذه هي المرة الاولى التي يظهر فيها اسم كردستان في فيلم سينمائي . عمر يحب إحدى بنات قريته، لكنه يلتزم بالزواج من امرأة شقيقه الذي قتلته الشرطة وأنكر التعرف إلى جثته بسبب خوفه من نفس المصير. وهو من أكثر المشاهد تأثيرا في الفيلم، ذلك أن السكان الأكراد يضطرون في مثل هده المواقف إلى كتم آهاتهم وإخفاء دموعهم.. وهو ما يذكر بمقطع من قصيدة للشاعر الكردي لقمان ديركي يقول فيها “نحن الذين قُتلنا، ومُنعت أمهاتنا من البكاء علينا فارتدين زهور البراري”.

أمام هذا الكم الهائل من الإحساس بالقهر، يضطر عمر للالتحاق بصفوف المقاومة الكردية في الجبال تحت زغاريد النساء، وذلك في رسالة تقول للسلطات التركية: أنتم الذين بدؤوا بالظلم والقهر والقتل.. ولولا ذلك لما حاربناكم.  .

أشباح السجن بقيت ماثلة في أذهان شخصيات الفيلم، فترة هذا الإفراج المؤقت، فهذا مولود، شاب من عائلة ميسورة يحاول بعد عودته للإجازة إقناع خطيبته للزواج، لكن أهل الفتاة يماطلون مما يضطر للذهاب إلى بيوت الدعارة، وهناك تطلب منه المشرفة على خدمة الزبائن، الذهاب إلى الغرفة رقم 4، لكنه يرفض، لأن ذلك الرقم يذكره برقم المهجع الذي يقبع فيه في السجن ويفضل الذهاب إلى الغرفة رقم 11 .

أما عن السجين يوسف، فينطبق عليه قول العامة “اجت الحزينة لتفرح ما لاقت مطرح” إذ وفي غمرة نشوته وفرحته بالإجازة ولقاء زوجته وإهدائها طيرا مسجونا داخل القفص يضيع التصريح فيتم القبض عليه مجددا قبل الوصول إلى البيت ويتم إدخاله إلى سجن جانبي من أجل التأكد من روايته رغم محاولته ومحاولة صديقه مولود بالإفراج عنه كونه يرافقهم في السجن وحصل على إجازة الخروج لمدة أسبوع.

كل هذه الأحداث التي تتلاعب بأقدار شخصيات “تحب الحياة ولكنها لم تستطع إليها سبيلا”، تدور تحت أزيز الطائرات حينا، وصمت الحزن والتوجس حينا آخر. وجوه مكفهرة، أطفال كبار ويدخنون، حياة قاسية وفقيرة، لكنها مليئة بالدموع والمعزوفات القادمة من عمق الأوجاع.. ألم يقولوا: الغناء ديوان الكورد. وأنشد أحد شعرائهم “تعودنا الحياة متجهمين والموت مبتسمين”.

البطولة للسجن

هذا الفيلم الذي وقع تهريب مخطوط كتابته ومخرجه من خلف قضبان السجون وعبر الحدود، وأنجز بطريقة تشبه الخيال السينمائي، هو بمثابة حجر الزاوية في بناء صناعة سينمائية كردية اللسان والهوى والمزاج، إذ ومن خلاله تأسس مهرجان السينما الكردية في برلين سنة 2002 على يد محمد أكتاش وبولانت كوجاك. وكانت غايته لم شمل العائلة السينمائية الكردية في دول عديدة، وتعديل الكفة لصالح الفن والثقافة بعد أن طغت عليها السياسة وعصبياتها.

“الطريق” فيلم يهتم بالتفاصيل والأحاسيس الإنسانية الدقيقة قبل الشعارات التعبوية، وإن كانت أحداثه تدور على خلفية سياسية كما أنه لم يهمل الجماليات البصرية واللغة التشكيلية القائمة على دقة اختيار الألوان والزوايا، وكذلك الموسيقى التصويرية.

وفي هذا الصدد، يقول يلماز غوني، الذي استعان بشريف غورن، لتنفيذ الإخراج بسبب وجوده في السجن “كنت أعلم مسبقاً بأني لن أقوم بإخراج بعض أفلامي بنفسي بسبب وجودي في السجن، لهذا السبب قررت إضافة الكثير مني ومن أفكاري وتخيلاتي  وصوري وتصوراتي التي تزدحم في رأسي  فاضطررت إلى كتابة ديكوباج تكنيكي فني تفصيلي  دقيق مع جميع الملاحظات الضرورية المهمة للإخراج والحوار  والموسيقى بالإضافة إلى تعليمات مكثفة وواضحة عن الديكور والألوان والملابس وحتى نوع العدسات التي يجب أن تستخدم”.

وعن علاقة غوني بالسجن الذي شكل عقدة بالنسبة للكثير من سجناء الرأي في تركيا وغيرها، فما ينفكون يكتبون عنه حتى جعلوه هدفا ومنطلقا للعديد من أعمالهم، يقول  غوني، “لم أكن أريد أن أكتب مذكرات السجن أو عن السجن إلا لأنني لم أتمكن أن أتجاهل هذا الواقع المأساوي  فكان فيلم ” الطريق” الذي يبدأ من السجن ويذهب إلى خارجه أي إلى السجن الكبير ، سجن المجتمع  وصعوبة الحياة  وقساوتها. ثم تبعته بعد أن حصلت على حريتي  بفيلم ” الجدار” الذي يعود بنا إلى داخل السجن حيث تدور أحداثه كلها تقريباً في السجن.

ونظراً لظروف عمله واستحالة تصويره في تركيا وفي سجن حقيقي، قام غوني، ببناء سجن تركي في قلب أوروبا لتخليد تلك الشخصيات وفضح الواقع المزري الذي تعيش في غياهبه الشخصيات عبر المآسي التي رأيناها سواء في فيلم ” الطريق” أو فيلم ” الجدار”.

ملك الشاشة القبيح

في عام 1959 مثّل يلماز، فيلمه الأوّل “الأيل الأحمر” ومن ثم فيلم “أبناء هذا الوطن”. وفي ذلك الوقت سيحصل على لقبه الفنّي “يلماز غوني”، أي يلماز الجنوبيّ، كاسم مستعار كتب به سيناريو أحد أفلام المخرج المميّز عاطف يلماز.

منذ سن السابعة، تنقل يلماز غوني بين مهن كثيرة وشاقة فعمل في قطف الفواكه، وفي السقاية وحمالا، ثمّ بائعا للجوز وبائعا للجرائد ثمّ أجيراً عند قصاب.. قبل أن يصل إلى العالمية في فيلمه ‘يول” (الطريق).

مثّل يلماز في 11 فيلما تركيا في العام 1964، واثنين وعشرين فيلماً في العام التالي. ليصل مجموع ما مثّله من أفلام، في حياته الفنيّة، إلى 110 أفلامٍ سينمائية، كان من بينها العديد من الأفلام التجاريّة. وكان يحلو له اللقب الذي أطلقه على نفسه “ملك الشاشة القبيح”. في الثلاثين من عمره أضاف غوني اختصاص الإخراج السينمائيّ لمهنته كممثل وسيناريست. وفي الوقت الذي لم يحظ فيلمه الأوّل “اسمي كريم” بأيّ نجاح يذكر، فإنّه سرعان ما حقق فيلمه الثاني “سيد خان”، في العام التالي 1968، الأرقام القياسيّة في المشاهدة؛ حيث شاهد الفيلم ما يقارب من ثمانية ملايين مشاهد. وفاز بالجائزة الثالثة لأفضل فيلم في مهرجان أضنة السينمائيّ 1969 بينما فاز غوني بجائزة أفضل ممثل. ومنذ ذلك العام، وتحديداً منذ عام 1970، لمع نجم غوني كأحد أفضل المخرجين السينمائيين، مجسّداً الوضع الاجتماعي المزري للبلاد في موجة جديدة للسينما التركيّة، ضمّت إلى جواره مخرجين من أمثال أردن كيرال وثريّا دورو وزكي أوكتان وعمر قاوور وشريف غوران.. حيث جعلوا اسم السينما التركيّة، منذ عام 1980، يسطع نجمه في المحافل الدوليّة بقوّة.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى