تحليلات سياسية

ما بعد التغيير العربي

د. إياد العرفي

ما بعد التغيير العربي ….الواقع أن فكرة الحديث عن “ما بعد التغيير”، أو ما بعد “الربيع” إذا ما أخذنا بالتسمية التي أطلقت على ما حدث في بعض دولنا العربية منذ بداية عام 2011، تدعو المرء إلى الحذر والتخوف، فلا شك أن التغيير الذي حصل في بعض الدول العربية هو تغير جذري.  لكننا، في هذا المقام لا نبغي تقييم ماحصل، ولا نود اختيار الاسم الملائم له، بل ما نبغيه ونتمناه هو ألا يتحول ما حصل إلى كابوس، في ضوء المخاض الصعب الذي يعيشه هذا “الربيع” استعدادا لولادة “ما بعد الربيع”.
من منطلق المحب القلق على وطنه وشعبه، نود أن نذكر شعبنا في دول “ما بعد الربيع” بتجربة صديقهم المناضل الكبير “نيلسون مانديلا”، لعلها تكون منارة لهم تساعدهم في تلمس الطريق الذي يوصلهم إلى هدفهم المنشود: إقامة دولة الحق والعدالة والمساواة.
لا يختلف اثنان على أن “نيلسون مانديلا” هو أحد أعظم المناضلين فى التاريخ، فهذا الثائر الإفريقي – العالمي أمضى حياته مناضلا شرسا ضد القهر والظلم والاستعباد، قضى تسعة وعشرين عاما منها فى سجون الظلام، إلى أن دحر أحد أسوأ الأنظمة الاستبدادية في التاريخ، وعبر بشعبه من نفق العبودية المظلم إلى فجر الحرية الجميل.
عظمة مانديلا لاتقتصر على كونه مناضلا “ثائرا” على الظلم، بل كونه تابع مشواره النضالي ك “سياسي” و”رجل دولة”، إلى أن أرسى دعائم نظام جديد عادل، في بلد نشأ وترعرع على نظام “الفصل العنصري” البغيض.
يقول هذا المناضل الكبير “ما زلت أذكر يوم خرجت من السجن بعد تسعة وعشرين عاماً، قضيتها فيه لأني حلمت أن أرى بلادى خالية من الظلم والاستبداد. وأمام السجن تساءلت: كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلاً”.
هذا التساؤل، في الواقع، أسس لميلاد مانديلا “جديد”، مانديلا “رجل الدولة” الذي يريد بناء وطن جديد بنظام جديد قائم على الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بعد أن ربح المعركة ضد الظلم والطغيان. مانديلا “الجديد” لم يضع الانتقام من جلادي الأمس نصب عينيه، لأنه رأى، كزعيم كبير، أن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف على أطلال الماضى المرير، ولذلك عارض مطالب أبناء جلدته السود بالانتقام، الذي لو حصل، لانجرفت جنوب أفريقيا إلى أتون حرب أهلية تحرق الأخضر واليابس.
مانديلا “السياسي” كان عظيما كعظمة مانديلا “الثائر”، تسامى على جراح الماضي، وعلى ذكريات القهر والظلم والاستعباد المريرة، وقرر بنبل القائد الاستثنائي الذي يصنع التاريخ، أن يصفح عن المجرمين ، اكراما لوطنه ولمستقبل شعبه.
مانديلا، وكما كان عظيما في نضاله ضد الظلم ، كان عظيما أيضا وهو يحرر جنوب افريقيا من تركة ثقيلة من الأحقاد، طاويا صفحة الماضي السوداء، بكل ما تحمله من ضغائن وكراهية، وفاتحا صفحة جديدة بيضاء ناصعة، لفجر جديد لا يعرف الا الحرية والعدالة والكرامة والتسامح، في سبيل بناء الدولة المنشودة.
مانديلا، الزعيم “السياسي”، شكل، في إطار بناء الدولة الجديدة، لجنة “الحقيقة والمصالحة”، وأسند رئاستها لرفيق دربه النضالي القس ديزموند توتو. لجنة مانديلا هذه جمعت، تحت سقف واحد، الجلاد والضحية، في لقاءات مشبعة بالألم والدموع والأمل، ف “تصارحا” في آلام الأمس، إلى أن “تصالحا” من أجل آمال الغد.
صديقنا مانديلا وجه رسالة إلى من سماهم “أحبتي الثوار العرب”، ضمنها نصيحة المجرب الخبير، نصيحة المحب لمن وقف إلى جانبه طوال سنوات نضاله، نصيحة تحمل في طياتها الخشية على مستقبلهم في مرحلة ما “بعد الربيع”.
نصيحة مانديلا، التي لم تعط حقها من الأهمية، ل “أحبته الثوار العرب” هي أن “ينسوا الضغائن والأحقاد، وينتبهوا جيدا الى بناء الوطن، وان لا يضيعوا وقتهم في محاسبة العهد البائد”، مذكرا إياهم بما قاله رسولهم الأعظم، صلى الله عليه وسلم، لأعداء الأمس المهزومين: ” اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
مانديلا يحذرنا، في رسالته، بان العنصرية والظلم أحياناً يصيبان المظلوم بنفس أعراض الظالم. ويقول لنا أن “إقامة العدل أصعب من هدم الظلم”. وهو يؤكد لنا أن الأحرار والثوار لا يحقدون ، لا يعرفون الانتقام، ويصرون على ان تبقى أياديهم بيضاء من دنس الحقد والانتقام، وعلى أن تكون أفعالهم مكرسة لتحقيق أهدافهم النبيلة.
ما أحوجنا اليوم إلى أن نتمعن في رسالة مانديلا ونستهدي بنصائحه، وإلى أن نأخذ العبرة مما قاله مناضل كبير آخر دخل التاريخ من أوسع أوسع أبوابه، من خلال نضاله ضد الظلم والتمييز العنصري، هو “مارتن لوثر كينج”، الذي قال يوما: “إن الظلام لا ينجلي بالظلام، النور وحده هو الذي يجلو الظلام، والكراهية لا تمحى بالكراهية، الحب وحده هو الذي يمحو الكراهية”.
نأمل، بل نصلي، أن يقتدي شعبنا، في دول “الربيع العربي”، وهو يصوغ مستقبل بلاده، بهذين المناضلين العظيمين، لعله يستلهم منهما ما يحفزه على تجنب الانتقام والابتعاد عن الكيدية والأحقاد، وأن يكون همه الأول والأخير هو بناء وطن “مابعد الربيع”.

 

صحيفة الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى