معابد للفرجة والكلام
معابد للفرجة والكلام
*مسرح قرطاج الروماني:
كأنّه حدوة حصان عملاق ,هبط من السماء …أو هبطت فوقه السماء,لكنّه لم يكب إلاّ ليعلن قرطاج عاصمة أبديّة للإصرار على الحياة.
غزتها روما,أحرقتها ورشّت فوقها الملح إمعانا في إهانتها…لكنّ قرطاج الفينيقيّة علّمت طائر الفينيق أنّ الرماد لن يكون رمادا أبدا .
مازالت حجارته تتمايل طربا لأصوات المنشدين والموسيقيين ونزق المسرحيين,من المغنّي (دجيمس براون)في ستينيات القرن الماضي ,مرورا بالمغنية السمراء(مريام ماكيبا) ,(ميكيس تيودوركيس) واضع موسيقا (زوربا) …ثمّ وصولا إلى نجاة وماجدة حليم الرومي التي غنّت على ركحه:
(ردّي أنا بنت صور جئت أسألها قرطاجة الأمس هل دامت على الحقب…خلّيك بلبنان غاوية يا ولاّدة العرب).
*مسرح جرش:
من هنا مرّت قوافل الأنباط في اتجاه البتراء,المدينة الأعجوبة الحمراء التي نحتها أهلها الأشاوس بأزاميل ومخالب من ذهب.
جرش مسرح يخاطب السماء ويحكي مونولوجه للريح مهما تفاوتت أصوات المغنّين على خشباته وأذواق المتفرّجين فوق مدرّجاته.
جرش شاهد على بقاء العرب والعجم ..ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
*مدرّجات بعلبك:
أعمدة بعلبك سواعد تقطف الأقمار وحارسة لمجد الإله بعل ,رمز الخصوبة التي لا تغيب عنها الشمس ولا يجفّ عنها الغيث.
كلّما غنّت على مدرجاته فيروز ازدادت الأعمدة ارتفاعا …لكنّها تترنّح كلّما غازلها طلال حيدر بقوله :(بغيبتك نزل الشتي,قومي اطلعي ع البال…في فوق سجّادة صلاة…واللّي عم بيصلّو قلال…صوتك مصر المرا ..وبعلبك الرجّال …سألت راعي حماة :شوفلي الطقس شمال؟قالّي جاية نسمة هوا بتوقّع الخيّال..).
*مدرّج بصرى الأثري:
هنا كان يعتكف راهب يشبه البحيرة في الورع والحكمة والتقوى,هنا حطّت قافلة أبي سفيان يرافقها فتى وضّاح الملامح وقد وشمت السماء خاتمها على كتفيه.
هنا تأتي فرق العالم كل صيف لتراقص النسائم والخيال وتخبط بالأقدام على أرض تذكّرها بالأمجاد وتتكلّم كلّ اللغات.
لم أزره إلاّ مرّة واحدة ,كان ذلك في حفل فيروز سنة 85 وعبر قطار ينطلق من محطّة الحجاز…انظروا إلى التاريخ حين يغازل نفسه.
*دار الأوبرا بباريس:
تقع على مرمى تسكّع من (المقهى الكبير)ومحطّة الميترو ومبنى الخطوط الجويّة السوريّة….(الخطوط السوريّة) :لم تكن معلما سياحيّا ,لكنه الحنين إلى تلك الأيام التي كنا نقطع فيها تذكرة حين نقرّر العودة إلى دمشق
ما أبهج منظر الموسيقيين بآلاتهم وهم يدخلون حانة(الأنتراكت) أي بين الفصلين في التعبير الفرنسي, يتناقشون بصوت عال كلّما ازدادت حدّة المشروب ..يبتسمون ويردّون التحيّة بلطف.
هنا –وعلى مرمى قريب من الذاكرة-كان يعيش طه حسين وتوفيق الحكيم والمفكّر الكبير عبد الرحمن بدوي.
*دار الأوبرا في فيينا:
تبدأ الأناقة لدى الجمهور قبل الموسيقيين باعتناق الكرافات والبدلة السموكن ..وتنتهي بالابتسامة وطريقة التصفيق والتعبير عن الإعجاب.
أنهم أحفاد بيتهوفن وموزارت و شتراوس ,إن لم تكن تستظلّ تحت شجرة فإنّك تتفيّأ تحت تمثال أو نافورة أو مبنى أوبرا.
عجبا …! كيف يطيق هؤلاء الناس الاستماع مدّة ثلاث ساعات أو ما يزيد إلى الموسيقا دون ضجر أو رغبة في التحدّث والتدخين..! ,سألت مرافقتي التي ردّت بقولها ممازحة :(أنت عربي وإفريقي ومتوسّطي…لا تتحدّثون إلاّ بأياديكم ولا تنصتون إلاّ بأجسادكم).
أحببت أن أردّ الكرة إلى مرماها فأجبتها:(نحن قوم لا نردّ على محاورنا وأيدينا مقيّدة ولا نتحدّث الفكرة قبل رقصها ولا ننصت قبل أن ينصتوا إلينا.
*البيكاديلي في لندن:
من قال إنّ الإنكليز قوم باردون..! ,إنّهم ذوو قلوب دافئة ,شفّافة ..وربّما قاسية أحيانا,تماما كالألماس.
يتفرّجون بانتباه وينصتون بانتباه ..يسبقون أفكارهم قبل أن تسبقهم ..ولا يتحدّثون أو يعلّقون إلاّ إذا طلبوا منك الإذن.
ثقافة الفرجة تقتضي احترام الذي تشاهده ويشاهد معك,الذي أمامك والذي إلى جانبك …إنّها فنّ لا يقلّ أهميّة عمّا قطعت تذكرة في سبيله.
*الآن وهنا وفي كلّ بلاد العرب:
يدخل المسرح مجّانا(بالشحّاطة) .. ودون تذكرة,يفصفص البزر,يتحدّث إلى جاره وأطفاله و الموبايل ,يعلّق بصوت عال,يغادر في منتصف العرض ..ثمّ يشتم صانع العرض …وفي الجرائد أحيانا…!.
بوابة الشرق الاوسط الجديدة