وعليك الكلمات…حديث في الكتابة والكتّاب
وعليك الكلمات…حديث في الكتابة والكتّاب ..كيف لشخص غليظ الطبع, ضيّق الخلق , متجهّم الوجه, ملبّد الرّوح ,عديم التجربة, قليل الخبرة, فقير الموهبة, كريه الذائقة, كاره للناس, أن يكتب رواية أو فيلما أو مسرحيّة أو قصيدة عن الحب والحياة…!؟
يحدث هذا ـ للأسف الشديد ـ حين تستباح الكتابة وتستسهل فتمسي نسخا ولصقا ووراقة وتصبح صنعة أدواتها(لابتوب) ورأسمالها حقد وضغينة أمّا ترويجها فسهل على من يستسهلونها أصلا.
هل ينبغي التذكير بأنّ الكتابة فعل محبّة وتواصل مع الذات والآخر حتّى وإن كان موضوعها الكراهيّة وما أكثر المبدعين الذين عالجوا القبح بجماليّة أخّاذة, غمسوا أقلامهم وريشهم في تراب الأشياء فأزهرت ورفعوا رؤوسهم نحو السماء فأمطرت.
هل ينبغي التذكير بأنّ المبدعين هم سدنة معبد الحب وحرّاس الجمال, هل ينبغي التذكير بأن لا وقت للغجريّ كي يبني بيتا فيه كما لا وقت للفنّان الحقيقي كي يكره فيه.
إنّ من يتقن الكراهيّة لن يتقن الإبداع أبدا ومن لا يمضي إلى الناس لا يقبل عليه أحد ومن لا يعجب بشخصيات كثيرة منهمكة في زحام الحياة لن يعجب به أحد.
ثمّة من يدّعي(الشعبويّة ) من أشباه الكتّاب فيترجّل من ظهر كرسيّه نحو الشارع ويفتعل الاقتراب من المتعبين والمهمّشين فيربّت على أكتافهم بقفّاز حريري , يفكّ ربطة عنقه,يضعها في جيب سترته ثمّ يدخل حانة كي يشرب كازوزة , يتقرّب إلى طاولة فيها نفر من عشّاق الحياة و مهزوميها, يسامرهم بزيف لا يخلو من استعلاء, يمطرهم بأسئلة فاترة كمحقّق مبتدئ , يأكل من (مازتهم), يبتزّ مشاعرهم كي يمنحوه الأمان والثقة, يشتمهم في سرّه ثمّ يمضي إلى مكتبه كي يكتب رواية عن قاع المدينة…!
وثمّة رهط آخر من الذين جاؤوا الكتابة بغير وجه حق وضلّوا طريقا نبيلة ونافعة كالتجارة أو الحدادة أو الزراعة أو الرعاية أو السقاية. وأصرّوا على ارتكاب الكتابة دون رادع داخليّ أو خارجي, تراهم يمعنون في السخرية من المهن والشرائح الأخرى بدافع التنكّر لبيئتهم الحقيقيّة ورغبة منهم في صنع (بورتريهات)جديدة لذواتهم الحائرة والحاقدة وظنّا منهم أنّ الكتابة امتياز وليس مسؤوليّة.
الأمر لا يتعلّق بالعقد النفسيّة التي قد ترافقنا منذ الطفولة ولكنّ معرفة تلك العقد وتشخيصها وكيفيّة التعامل معها هي التي تجعل منها حميدة بل محفّزة لمزيد من الإبداع والتأّلّق, التاريخ يعجّ بالشواهد ـ على كلّ حال ـ من المعرّي في شرقه إلى بورخيس في غربه.
الناس كتّاب لا يكتبون لأنّ منهم من يخاف الكلمة أو يهابها ومنهم من يجهلها أو يتجاهلها ومنهم من يقتلها أو تقتله ومنهم من تحييه أو يحييها أمّا الذين صاروا هم( الكلمة ) فقد وصلوا إلى أعلى المراتب وهو شرف يطمح إليه كلّ كاتب حقيقي وهؤلاء القوم هم نخبة في مقام الأولياء والصالحين ضمن قاموس المتصوّفة والحافظين للسرّ الأقدس.
في ستّينات القرن الماضي وعندما كان الشاعر والمسرحي والمناضل النقابي التونسي( منوّر صمادح ) يقبع في مستشفى الأمراض العقليّة كتب قصيدة مجنونة وطويلة كأيّامه الشقيّة بعنوان(كلمات) ,علّقها على جدار غرفته ثمّ على معطفه بعد خروجه هائما في الشوارع…ثمّ رحل وظلّت القصيدة وهذا مقطع قصير منها:
عندما كنت صغيرا كنت أحبو الكلمات*كنت طفلا ألعب الحرف وألهو الكلمات
كنت أصواتا بلا معنى وراء الكلمات*وتخطّيت سنينا عثرتها الكلمات
أركض الأحلام والأوهام خلف الكلمات*ووراء الزمن الهارب أعدو الكلمات
كلّ ما أعرفه أنّي ظلمت الكلمات*وسمعت الناس يصغون لصوت الكلمات
فتكلّمت ولكن لم أفدها الكلمات*فصدور الناس قد كانت قبور الكلمات
قل لمن همهم في الناس وخاف الكلمات*إنّما أنت شفاه ظمئت للكلمات
ونداء حائر في الصوت بحّ الكلمات*آدك الصمت فهلاّ قلت بعض الكلمات
مالذي ترجوه من دنياك لولا الكلمات*أنت إنسان لدى الناس رسول الكلمات
فتكلّم وتألّم ولتمت في الكلمات *وإذا ما عشت فيهم فلتكن :الكلمات
شاهد أنت عليهم وعليك الكلمات.