هذا هو اسمك
هذا هو اسمك
إلى محمود درويش في ذكراه…
غادر الرجل الذي قمعني و منعني من نشر الشعر على الملء طيلة سنوات عديدة، أسكتني عن طيب خاطر وجعلني لا أتقن إلاّ قراءته والإنصات إليه.
أكاد أقتنع وأقول لنفسي: كذا يفعل الشعراء الكبار بأممهم وشعوبهم في (برلمان) التاريخ الذي لا ينبغي أن يتّسع أعضاؤه إلى أكثر من أصابع اليد الواحدة (يكفي شاعر واحد لكلّ قارّة)، فما أتعس أمّة يكثر فيها الشعراء ويقلّ فيها الشعر.
أنا حزين ـ فقط ـ لأنّني لن أقرأ قصيدة جديدة لمحمود درويش بعد اليوم، وحزين – فقط- لأنّ غيره سوف يرتدي بدلته ويحاول تقليد صوته، حزين – فقط-ـ لأجل نوبل التي تعضّ الآن أصابعها ندما لأنّها لم تفز به حيّاً.
يبدو أنّ أطبّاء القلب ـ وليس المعدة ـ أكثر حدساً وفراسة في معرفة الشعراء منذ الشابّي مغرباً إلى درويش مشرقاً، فهذا هو اسمك أيّها الشاعر قبل أن نغيب في الجدار اللولبي، قبل أن نقع أسرى لما نريد وما نحبّ أن نكون، قبل ملهاة النرجس ومأساة الفضّة، قبل أن تدوس الخيول على العصافير الصغيرة… قبل ابتكار الياسمين، قبل أن يموت الهدهد والتّاج مثبّت على رأسه… وبعيداً عن أواني الموز وموت الفراشات والشعراء في فصل الصيف.
محمود أجمل أسماء فلسطين الحسنى لأنّه جعل منها همّاً شخصيّاً وراح يحرس أحلامها وكوابيسها ويسقي ورود شهدائها ويخجل من دمعة أمّه وينام على ظلّه العالي إلى أن اختنق ظلّه ومات.
هل تطلّ التلّة في رام الله على ما تريد الإطلال عليه، هل تحفظ طعمك القهوة المرّة، هل تتذكّر نكهة شفتيك الميرميّة .
مهلاً، أقرّ وأعترف أنّ ما تقدّم من سطور هو كلام باهت لشخص يحاول أن يغمس قلمه في حبر أسود للكتابة عن موت درويش كواجب وظيفيّ مقيت، كوقت نقضيه في مجلس عزاء نكتم فيه ضحكاتنا المتربّصة، نربّت على أكتاف أهل الفقيد ثمّ نمضي في زحام المقاهي والأسواق.
متى ننتبه إلى أنّ الشاعر يرثي نفسه منذ أوّل قصيدة ثمّ يموت فيأتي الناس لرثاء شعره ويستمرّ الموت منتصراً وباسطاً سلطته على الجميع –الخصوم منهم والموالين ـ كأوّل الأسئلة وآخرها.
متى نعلم أنّ الشاعر يعيش و يموت مثل كلّ الكائنات ولكنّه يدفن وحيداً ومجرّداً من كلامه… كلامه الذي يستبيحه الآخرون دون رأفة بصاحبه، صاحبه الذي لا يعطى فرصة واحدة لتغيير أقواله… ما أصعب ورطة الشعر وما أقسى حبّ الناس للشعراء.
أقرّ مرّة أخرى أنّي أغار من درويش منذ مراهقتي ـ وهذه حالة صحيّة وليست مرضيّة ـ أقولها على الملء وعلى طاولة أيّ طبيب نفسي يدّعي القدرة على فكّ عقدي فمحمود درويش هو الذي يخطف من طرف لساني الكلمات المناسبة في الأوقات المناسبة ويقولها قبلي وهو الذي يطلع لي شاهداً أو منقذاً أو مسعفاً في كلّ معرض حديث عن الشعر والحب والسياسة والنساء وهو الذي محا الفارق اللّفظي والحضاري بين المثقّف والشاعر وهو الذي أنسن الأمكنة وتوأم بين المدن وحاورها وحاورته فجعلنا نكتشف معه أنّ بيروت تفّاحة ودمشق قصيدة أمّا تونس وفلسطين فعاشقان يقولان لبعضهما شكراً في لحظة نادرة… لكنّ الذي يغار من شخص بعينه يعترف ضمنيّاً بفضل الأخير عليه وأهمّ أفضال محمود عليّ أنّه صحّح علاقتي بالشعر والشعراء وجعلني أحاور المثقّفين الأوروبيين في مناسبات عديدة و بضمير المتكلّم دون الاستعانة بكتب التاريخ ودون استخدام أفعال الماضي السحيق.
قالت العرب منذ امرؤ القيس: (يبدأ الشعر بملك وينتهي بملك) ودرويش يسافر وحده ملكاً بمفهومه الشعبي والمخملي، بنرجسيته وملحميته، بتواضعه وكبريائه لأنّ الشعر لا يقوله إلاّ الأسياد حين ينكسرون أو يجرحون وليس العبيد حين يسودون.
الآن عرفت لماذا يرثي الشاعر نفسه منذ مالك بن الريب وأبي فراس الحمداني وحتّى درويش… الآن عرفت لماذا تحوي خواتم الأباطرة السمّ الزعاف…لأنّ لا أحد يقوى على رثاء الشاعر غير نفس الشاعر ولا أحد يقوى على قتل الإمبراطور غير نفس الإمبراطور.