أيام ومدن ومشاكسات…
أيام ومدن ومشاكسات…
*يوم الأحد، باريس:
الجميع شمسهم عالية هذا الصباح – ماعدا المناوبين من الشرطة والاسعافيين والعاطلين والمشرّدين و… من كان مثلي آنذاك .
صديقي حمادة المصري يمتلك بسطة في جادة (السان ميشيل ) يكتب فيها أسماء زبائنه من السياح اليابانيين والأمريكيين بالأحرف الهيروغليفية على أوراق البردة المصرية مقابل عشر فرنكات قبل ظهور اليورو… وأحياناً (خمسة) لأشقائه العرب والأفارقة.
قال لي حمادة : (والنبي يا تقعد شويّة جنب البسطة لحد ما طيّر مي وراجعلك على طول)، داهمني الزبائن بعد غياب حمادة طالبين رسم أسمائهم بالـ(هيروغليفيّة ) فوجدتني مضطرّاً للارتجال مقلّداً ما كان يفعله حمادة الذي عاد فوجدني متلبّساً و أخطّ بالهيروغليفيّة، صرخ:
(ايه ده! دنت هايل بالهيروغليفي، خطّك جامد قوي، لو ما فيش بعض الأخطاء النحويّة طبعا)، أعطيته شيئاً من (الغلّة) ومضيت، سمعته يقول ورائي: (أوعك، ما تعيدهاش تاني أحسن تقطع برزقنا يا “شامبليون”).
*يوم الاثنين، مدن دمشق:
أمرّ من نفق مسرح الحمراء في المساء فأجده موحشا بسبب عطلة المسرح والحلاّقين، لا الحارس ميشيل ولا جاره محمود الحلاّق .
ترى ما الذي جعل المسرحيين والحلاقين يعطّلون في يوم واحد!؟ لعلّ وجوه التشابه كثيرة، فلكلاهما زبائن يجلسون على الكراسي ولا يحق لهم الاعتراض على ما يقدّم إلاّ بعد نهاية العرض، والمسرحي كما الحلاق كثير الكلام، مثير للرغوة في الجدل والسجال …إلاّ أنّ الأوّل يحني رأسه أمام جمهوره بعد نهاية كلّ عرض، أمّا الثاني فتنحني له الرؤوس مهما علا شأنها وتسلّم نفسها إليه الذقون مهما كانت ممشّطة.
متى تشتعل خشباتك تحت أقدام ممثليك من جديد يا مسارح دمشق.
*يوم الثلاثاء، القاهرة:
(زي الثلاثاء بنص الأسبوع)، مثل يكاد يردّده كل الأشقاء في العالم الإسلامي امتعاضاً من شخص لا يرغبون في رؤيته – ما عدا تونس ولبنان وتركيا- لأن العطلة الأسبوعية في هذه البلدان هي يوم الأحد.
المواعيد في مثل هذا اليوم مثل عبارة (يا مستعجل وقّف تقلّك) كما يقول اللبنانيون، إنه يوم فاتر، لا يحسّسك بنهاية الأسبوع ولا ببدايته لكنه يوم لأحلام اليقظة فهو موعد لسحب ورقة اليانصيب الذي تعبس دواليبه في وجهك منتصف كل أسبوع… ثم تعاود الكرّة مرّة أخرى لعلّك تجد الإبرة في كومة القشّ.
*يوم الاربعاء، حمص:
النكت تعيد للمجتمعات توازنها وبهجتها وتجعل الأفراد أكثر أنساً وتسامحاً.
أجمل الناس هم أولئك الذين يبتدعون نكتاً وطرائف وهم في أسوأ حالاتهم، حتى وإن كانت هذه الأحداث الطريفة تدور حول شخصهم كما كان يفعل (برنارد شو) … أما أروعها فهي تلك التي تشاكس على المحظورات دون أن نشتمّ فيها نزعة عنصريّة أو مذهبيّة.
الحماصنة في سورية (أمراء الابتسامة المتحدّية) … كذلك الصعايدة في مصر والصحراويون في المغرب وأهل (ترهونة) في ليبيا و(الخلايلة) في فلسطين …إلخ… أما التوانسة فيروون النكات حول الليبيين… لعلهم يقلدون الفرنسيين في تنكيتهم على البلجيكيين!.
وتبقى الأربعاء محرّضاً للذاكرة في روائع الأدب من (حديث الاربعاء) لطه حسين إلى (أربعاء الرماد) لـ( تي إس إليوت).
*الخميس، قاعات السينما العربيّة:
(كتب كتابنا يوم الخميس يا فندم )، جملة سمعتها في أكثر من ألف فيلم عربي، كما لو أنّ عقود الزواج لا تنجز في غير هذا اليوم!.. الخميس لا يذكّرني إلا بالاختناقات المرورية والweek end على الطريقة العربية كأن يشتري عاملنا الكادح الطيب في هذه الليلة فرّوجاً وفستقاً ومشروباً ثم يختلي بحرمته على ضوء أحمر وأحداث فيلم (روتاني) حتى آذان الفجر.
لماذا أتخيّل الخميس بلون أسود دائماً… تذكّرت … كنّا قد قرأنا عن انهيار البورصة في الخميس الأسود من بداية منتصف القرن الماضي حين تساوى في الفاقة العمال والموظفون : أصحاب الياقة الزرقاء مع الياقة البيضاء … حقاً إن للأيام ألوان.
*الجمعة، مدن القدس وكل مدن السلام المستحيل:
عفواً يا هيئة اليونسكو الموقّرة، هلاّ جعلتموها عاصمة للجراح قبل أن تعلنوها عاصمة للثقافة منذ بضع سنوات، كيف للمقدسي أن يكتب بدمه ويرسم على جلده ويرقص فوق جراحه؟… كيف له أن يعزف أنينه ويغنّي استغاثته وينحت أشلاء جثته… المسرح لا يصنعه المحتضرون والسينما لا يشاهدها الأموات والمحاصرون … يا الله لماذا الجمعة حزينة دائماً… أدركت مجدّداً أنّ للأيام مشاعر أيضاً تماماً كما الألوان.
*السبت، صندوق البريد:
أسمع خطى موزّع البريد على الدرج ثمّ أنصت إلى صوت (طبقة) الصندوق عند الباب، فأعضّ على اصبعي وأنا في الفراش: (لعلّها، فاتورة… أو دعوة لمناسبة لا أملك كلفة حضورها .. الأمر سيّان … لعلّها مقالتي الأسبوعية، كيف لم أعدّل من تلك الجملة وأغيّر من تلك العبارة، لماذا اخترت هذا الموضوع، لن أخرج هذا اليوم تجنّباً للانتقادات .
إنها الأيام التي نلبسها مشاعرنا، لكنها تمضي غير آبهة، مثل قافلة من السحب.