إني اخترتك يا جسدي…
إني اخترتك يا جسدي… الجسد وعاء الروح، حبر الحروف، لفظ المعنى، وتر الموسيقى، شبّاك المدى وناي الحنين .
هو الزجاجة الأنسب جمالاً وأناقة وتصميماً للعطر الأكثر إدهاشاً وحلماً وسحراً … وهو لدى الحاقدين والمشوّهين علبة صدئة، موحشة وقبيحة للسموم الزعاف.
هو العبارة الأكثر رشاقةً ودفئاً وعذوبةً لأنبل المعاني وألطفها … وهو عند الكارهين والأشرار شرر من خشونة اللفظ وأكثره وحشة وقبحاً للأسماع والأبصار.
هو الحبر المعطّر بزهور البراري ولون العسل في مداد خطّاط عاشق أو راهب متبتّل، وتحت حفيف قلم يحلّق … وهو الباهت القانط الراكد المغبرّ السريّ فيما يرتكبه الخونة والعسس وكتبة التقارير المدمّرة .
هو الوتر الذي تلامسه أنامل العازف فتسيل أنهار الحنين، ترقص الكائنات وتطرب السماء … وهو عند دعاة الموت وأعداء الحياة وعبدة الظلام، نعيق غربان، نهيق حمير ونقيق ضفادع تدفن رؤوسها الصغيرة في برك الوحل ومستنقعات الرغام.
الجسد في مهج التوّاقين للأعالي شبّاك يتّسع كل صباح وترنيمة حب تجوب الآفاق …وهو في قاموس المعقّدين , قفص للطيور المحنّطة، مسلخ للجياد الأصيلة ومزمار مشعوذ أفّاق، يخرج أفاعي الكراهيّة من أوكارها… ويطلقها تسعى للضغينة والأحقاد.
هذا هو الجسد الذي أراد الله تكريمه لدى بني البشر فدنّسته بعض المعتقدات الفاسدة بذريعة (التقرّب إلى الله) ..!
خلق الجسد الانساني في أحسن تقويم وأودع أسراراً كثيرة لهذا الوجود الكريم ثمّ جاء حفنة من المرضى والمعقّدين وأصحاب النفوس الدنيئة ليجعلوه مكبّلاً ومشوّهاً بدل أن يكون طليقاً كطيف نسيم وحرّاً كنور الضحى في السماء.
عجباً لفقهاء الظلام وعشّاق القبح، كيف يكفرون بنعمة ربهم ويدّعون التسبيح للخالق بمحاولة طمس معجزات خلقه، ألم يجعل جلال الدين الرومي من الرقص طريقاً نحو (التيه الجميل) في ملكوت الله العظيم عبر طريقته الميلويّة الآسرة.
الجسد يحتوي ويختصر كلّ طرقات التعبير الانساني ودون لغة منطوقة ، وحتى لدى الكائنات الأخرى من حيوان ونبات، وهو الذي يقول بالحركة والسكون، بالصوت والصمت كل ما ألهم به الله الذات البشرية من (فجور) و (تقوى) .
(جسدي ملكي):هو العبارة التي أطلقتها إحدى الجمعيات المدنيّة الناشطة في تونس كردّ على وقائع الاغتصاب والإهانة للنساء، وهي شعار مهرجان عالمي للرقص يحتفي بلغة الجسد ضد لغة العنف والقتل والفتن الطائفيّة التي ينكرها الجسد الحر وتحرّض عليها النفوس المريضة التي تحاول احتلاله.
*كلمة في الزحام:
شاهدت بأم عيني وفي أحد المتاحف الأوروبية سائحاً عربياً ينظر بشبق واضح إلى التماثيل العارية …ومن خلفه امرأته المتشحة بالسواد تسترق النظر من خلف نقاب … وأدركت معنى الجمال الخالص حين منعت من الدخول إلى حرم كنيسة الفاتيكان بلباس الشورت، عدت مرتدياً بنطالاً فصعقتني جماليّة التماثيل شبه العارية.