التسول في زمن الكورونا
التسول..
عبدالغني، متسوّل محترف، يمارس ” مهنته” أمام الجامع مكتفيا باستخدام عبارة “يا كريم” في صوت جهوري ورخيم. يضع عبدالغني نظارات سوداء، يرتدي ثيابا نظيفة، وتدفئ وجهه في الشتاء، لحية كثيفة يغزوها الشيب وتوحي بشيء من الوقار، مقارنة ببقية زملائه الذين يستدرّون المشاعر بثيابهم الرثة والمتسخة مصطنعين شتى أصناف العاهات.
أما عبدالغني، فله حظوة خاصة لدى “زبائنه” من المارة، ذلك أنه ليس لجوجا، بالإضافة إلى روح النكتة وحس الدعابة، وكذلك سلاطة اللسان في الرد على تعليقات واستفزازات الباعة الذين يجاورونه في المكان.
صدح مرة بصوته غاضبا “اعطونا من مال الله يا أولاد (…)” وكان ذلك أمام حشد من المصلين كانوا قد خرجوا لتوهم من الجامع، ولم يحظ من لدنهم بمليم واحد. ضحك الجميع، بمن فيهم موظفو شرطة محاربة التسول، والذين يعاملونه معاملة خاصة.
بررت سلاطة اللسان تلك بكونه كفيفا، الأمر الذي يشجعه على التمادي عندما لا ينظر ولا يقدّر ردة الفعل في وجه من يشتمه، لكني ما زلت أرجح أنه يبصر من خلف نظارته السوداء، ذلك أنه استشعر قدومي هذه المرة من بعيد لمجرد أني طلبت من جارته على الرصيف علبة محارم جيب، وبصوت خافت؟
قلت لعبدالغني ممازحا ” كيف الشغل هذه الأيام؟” فكبس على قطع النقود بقبضته ثم رفع إبهامه بالجواب ” الله يدوّم علينا هالنعمة ” فانفجر الباعة والمارة من حولنا ضاحكين، وفي نفس الوقت، مرتعبين من هذا الدعاء الموحش الغريب.. وكان ذلك بداية تفشي كورونا وقبيل غلق المساجد وفرض الحظر الصحي.
ولأن جيران عبدالغني من باعة وماسحي أحذية، يعرفون مزاحي مع عبدالغني، واستفزازي له كل ما مررت من قربه، فلقد همس لي أحدهم أن أسأله إن كان ينظف راحة يده بعد كل مرة يقبض فيها من أحد المتصدقين. سرعان ما أخرج من جيبه عبوة معقم، فرك بها يده وقال: طبعا الاحتياط واجب.. والفلوس وسخ دار الدنيا كما تعلمون.
سألني عبد الغني إن كنت لا أزال أشتغل في المسرح كي يحضر لي عرضا جديدا فأجبته: وما شأنك أنت بالموضوع؟.. أنا أشتغل في فن بصري، وليس في الإذاعة يا صديقي.
الذي زادني ريبة، أنه سألني إن كنت أتذكر فيلم “كيت كات” الشهير، والذي يتحدث عن شخص كفيف وطريف.. عندها، أردت اختباره فمددت له بعبوة المعقم لتطهير كفه من “وسخ الدنيا”، لكنه لم يبسط راحته وصدح بعبارة”يا كريم” أمام أحد المارة وقد بدت عليه علامات اليسر مع بعض الخوف والتجهم.
ودعته ممازجا ” هل تشغلني معك مساعدا يا عبودة؟”
رد بما لم أكن أتوقعه: لا، أنا أحب أن أكون بمفردي على المسرح.. أي “وان مان شو” في قاموسكم.