التونسية فاطمة الفالحي تنجح في مسرحة السيرة الذاتية
التونسية فاطمة الفالحي تنجح في مسرحة السيرة الذاتية… ” روّح” أي “ارجع” في العامية التونسية التي تحتمل صيغتي التذكير والتأنيث في ضمير المخاطب ثم أن فعل الأمر هذا، يتضمن الطلب أو الحث على السرعة في العودة، ولكن أي عودة؟
ومهما يكن من تأويلات تسمح بها العناوين المضللة أحيانا، فإنّ الكلمة كُتبت كعنوان لمونودراما تونسية على خلفية المسرح أثناء دخول الجمهور وقبل صعود الممثلة فاطمة الفالحي، التي اشتركت بدورها في التأليف مع يسر قلاعي وخولة الهادف التي تصدت لعملية الإخراج، في إنتاج لشركة “بي أكتر” التي يديرها الفنان المسرحي توفيق العايب.
هؤلاء جميعهم، من جيل واحد تقريبا، احترفوا فنون المسرح في مرحلة واحدة، تعلموها وعلموها في رحلة تواتر، محافظين على ألق التجربة التونسية في عز إشعاعها العربي.
وانطلاقا من هذا المعطى المتعلق بمعرفة ومجايلة صناع العمل بعضهم بعضا، فإن النتيجة سوف تكون حتما ذات مغزى أو تعرف ماذا تقول على الأقل، رغم التوجس المسبق من الكتابة المشتركة وخشية أن يحترق الطبق الذي يتكاثر حوله الطباخون.
يبدأ العرض بتبني لغة العصر أي الانترنت ومشتقاتها من تقنية الاتصال وتحديد المواقع وغيرها، وذلك بمعرفة بيت أهل “فاطمة” الكائن في قرية ريفية نائية من الوسط التونسي، وكشفه من المجرة الشمسية والعالم كإبرة في كومة قش.
لم تكن هذه “المقدمة الكونية” سوى ذريعة لاعتماد تقنية الزوم التي تدخلنا في حكاية بالغة الصغر ومعقدة التفاصيل ثم سنرى في النهاية كيف تفضي بنا وتعيدنا من جديد إلى بعد كوني.
هذا على مستوى الصورة التي أثثت للتصور السينوغرافي الذي اختارته المخرجة خولة الهادف، أما على المستوى المسموع فإن مكالمة هاتفية مقتضبة ومتسرعة، كفيلة بدورها إلى الولوج في الحكاية.
مكالمة قادمة من أهل فاطمة تقول لها “روّح” أي عودي.. عندها، ليس عليها إلا الاستجابة المتمثلة في الرجوع إلى بيت أهلها باعتباره المرجع.. المنطلق والمنتهى ضمن ذهنية بطريركية لا تعترف بعودة إلا إذا كانت إلى بيت الطاعة.
وكما كل فتاة ريفية لا يمكن لها عصيان أوامر العائلة مهما بلغت من مستواها التعليمي والثقافي والاجتماعي، فإن فاطمة امتثلت إلى كلمة “روّح” دون إطالة أو نقاش.
صوت يبدو وكأنه هاتف من السماء، يذكّر برؤى الأولياء والقديسين، فما على الواحد إلا الطاعة والامتثال، عسى أن يكون ذلك خيرا.
نداءات الأمر التي تحث على العودة هذه، متعلقة أيضا ببعض استهلالات الأعمال الأدبية على شاكلة “قم ودع اليوم الأخير” لميخائيل نعيمة و”محمد، هيّأ حقيبتك ” لكاتب ياسين، وحتى “الغريب” لألبير كامو.
لكن فاطمة، الفتاة الريفية البسيطة رغم ثقافتها، تنفذ ما جاء إليها من أمر، وينتابها الفزع وتعتريها الشكوك حول حدوث أمر ما، ليس أقل من حالة وفاة، وتخص والدها على وجه التحديد.
يبدو أن “قتل الأب” الكامن في أعماق الذات، لا يحتاج إلى كتب فرويدية زائدة على اللزوم كي نكتشفه، رغم إنكارها لذلك.
نداء العودة إذن، واتخاذ قرار “المرواح” (مصدر كلمة “روّح “)لم يكن إلا ذريعة للحديث عن الطريق إلى البيت كشريط طويل من القصص التي تتناسل وتشهد على بؤس شخصياتها التي طحنها الواقع الذي فقد صوابه وصار سورياليا.
ما يقارب 300حجرة كيلومترية تفصل منطقة سيدي بوزيد عن العاصمة تونس وتختبئ خلف كل واحدة فيها قصة موجعة كمن يسترجع تاريخ البلاد ويختصره برحلة في الذاكرة.
طريق يعبّدها البؤس وتحفّها أوجاع قوم لم يستطيعوا إلى الحياة سبيلا، لكنها تحيل إلى حدث تونسي لا يمكن تجاهله، حتى وإن لم يقع ذكره في الحدوثة.. إنه حدث خلفي يتعلق بالمنطقة الذي خرج منها محمد البوعزيزي مع عربة الخضار، وهزت العالم بأسره.. تماما مثل المشهد الافتتاحي الذي يبحث عن سيدي بوزيد وموقعها في جغرافيا العالم.
طريق تسخر من نفسها، حتى في ظروف إنشائها ومدها كيفما اتفق، نحو أشلاء بلاد تريد أن تنهض من بؤسها فيعيقها الفاسدون والانتهازيون والجبناء والمنافقون.
كل هذا تحدثت عنه فاطمة الفالحي في محطات منفصلة متصلة، ةتعج صورا ماسخة إلى حد الضحك والتفاعل بين ممثلة تسلحت بالتلقائية وامتلاك الأدوات من جهة، وبين جمهور يراهن على صدقها وتمكنها، خصوصا وأنها تروي حكايتها كفاطمة الفالحي.
الأمر لا يتعلق بسيرة ذاتية كما قد يحكم البعض على المسرحية متسرعا، لكن تقنية السرد والمعالجة في “روّح” تذهب بالمتلقي بعيدا نحو برزخ من التصديق والتكذيب.. إنها المتعة في الإيهام وكسر الإيهام، خصوصا أن الشخصية ممثلة وتتحدث عن نفسها كممثلة.
يقول قائل: لماذا تشرك فاطمة شريكتيها خولة الهادف ويسر القلاعي، بما أن الحكاية تخصها؟ هذا هو السؤال الذي لا يتفطن إليه إلا عارف بشعاب الكتابة وتقنيات مثل هذا النوع من السرد الذي يشبه المونتاج السينمائي.
بالمناسبة، يُخيّل لجمهور المشاهدين أن هذا العمل سينمائي المزاج، ابتداء من عنوانه، حبكته، ووصولا إلى نهايته الصادمة.. هذا عداك عن التقنيات المستخدمة على مستوى الصورة والمؤثرات السمعية والبصرية.
المرجعيات التي اشتغلت عليها المحرجة والممثلة عبارة عن مزيج متآلف ومتجانس من طريقة اللعب لدى ستانسلافسكي وتفرعاته، مرورا بأسلوب غروتفسكي في مسرح فقير وخشبة خالية من البذخ، بالإضافة إلى الحاضنة البريختية.. والأهم من ذلك تلوينات أخرى لا تستكين إلى المدرسية الجافة بل تطوعها نحو نكهة تستحضر الحس الكوميدي الشعبي دون إسفاف.
وإذا ما اعتمدنا أسلوب الحكاية في كشف النهاية، فإن النهاية تكشف أن المكالمة التي جاءت لفاطمة من أهلها الذين جاؤوا لزيارتها في العاصمة، وكلموها عبر الموبايل من أمام باب بيتها.
هكذا، وبعد 75دقيقة من السرد الممتع، نكتشف أن كلمة “روّح” قد توحي باستقلالية نسبية عن منزل الأهل، وقد تقال حيث يقف الأهل لامرأة تونسية تمتعت بحقوقها على الورق منذ عام 1957.