الموت ليس واحدا
الموت ليس واحدا…اليوم أتوجه إلى مطار تونس ـ قرطاج، لاستقبال جثمان صهري ـ زوج أختي ـ الذي وافته المنية في ميلانو الإيطالية إثر أزمة قلبية، وترك خلفه طفلين رائعين مثل كل الأطفال، أثرا طيبا.. والكثير من الأسى.
أهم ما في الأخبار الحزينة ـ إن كان للأخبار الحزينة من أهمية ـ أنها تجعلنا نتعظ، نفكّر ثم نقدّر هول وقعها لو حدثت في ظروف مختلفة.
هذه المقارنة تبدأ أولا، بالحال التي عاش وغادر فيها الحياة، إذ لاقى ربه ميسور الحال في واحدة من أجمل مدن العالم، تحت رعاية صحية ممتازة، وبين أفراد أسرته، حتى وإن كان بعيدا عن بلاده.
صحيح أن الموت واحد، ولكن تخيلوا لو أنه لاقى ربه في بلد متخلف الخدمات الصحية والاجتماعية من تلك البلدان التي تهين الفرد في حياته وفي مماته، والعياذ بالله.
وصحيح كذلك، أن الإنسان سيجد له مرقدا أبديا يستريح فيه مهما ضاقت عليه الدنيا في عيشه، ولم يمتلك فيها مسكنا أي “قبر حياة” كما نقول في تونس، لكنّ شيئا آخر يجعل المتوفى خارج هذه البلاد ” مطمئنا” وقرين العين حين يحتضنه تراب هذه الأرض بعد غياب، ومهما كان سبب اغترابه.
هذا الشيء الذي يجعل الواحد “مطمئنا إلى موته” خارج البلاد، وغير “ثقيل الحمل” على الأحبة والأصدقاء هو أن الدولة التونسية، تعدّ من قلائل البلدان التي توفّر العودة المجانية لجثامين مواطنيها المتوفين بالخارج.. وهي ميزة تحسب لشخص الزعيم الحبيب بورقيبة، منذ فجر دولة الاستقلال.
حرص بورقيبة على أن تتكفل الدولة بهذا الأمر، حرصا على صيانة كرامة مواطنيها، حتى وإن كان بعضهم معارضا لنظام حكمه كما حدث مع الكثيرين.. وهو أمر لا يتوفر حتى في بعض البلدان الغنية.
وفي هذا الصدد، حصل لي شرف التعرف إلى رجل كان من أشد معارضي بورقيبة في الخارج، وكان دمثا لطيفا، بارعا في لعبة النرد التي يعود له الفضل في تعليمي إياها.
وعندما كان يستضيفني في بيته، كان يسمعني في كل مرة، شريط كاسيت لخطاب يتعرض فيه بورقيبة لشخصه بالاسم، ويسخر منه على طريقته كما كان يفعل مع خصومه السياسيين.
كان ذاك الشريط حجة لا تقبل الشك، على أن الرجل يمثل مشكلة شخصية للزعيم التونسي، وكان صديقي المناضل المعارض يسمعني الخطاب في كل مرة أزوره فيها مع أصدقاء، حتى اهترى الشريط وبدا الصوت فيه مترنحا ومبحوحا من كثرة التكرار.
حدث ما لم يكن في الحسبان.. ضاع الشريط، مرض صديقي المعارض العجوز قم توفاه الله.. وحين كنا نجمع بعض حاجياته في البيت لإرسالها مع التابوت إلى تونس، وجدت الشريط بالمصادفة، عالقا بين الكنبة والحائط.