تمارين صينية …. للشباب المعمِّرين!
تمارين صينية …. للشباب المعمِّرين! أجواء الغروب توحي بالتأمل والانشراح، ويستمتع عشاقها بالسكينة واستعادة الذكريات، وإطلاق الرجاء بأن ينعم هذا الكوكب الجميل بالخير والعافية والسلام.
وهذا الفتى يحاول بأناة وإمعان أن يرصد ملامح الطفولة الثانية (بعد الثمانين) بأمزجتها وهواجسها وتطلعاتها.. وحتى بنوبات عابرة من حماقاتها المضحكة. ولعل المكسب الجوهري الذي حدث لي منذ خمس سنوات أني استغنيت عن نظارة البعد، أو ما يسميه الطب (مد النظر الشيخي) ورجع نظري مثلما كان أيام الشباب، وهذه نعمة من لطف الله ورضوانه، وما زلت أبتهل ليلَ نهار أن يمن الباري علي بنعمة ثانية وهي أن تنبت لي أسنان جديدة، إذ كنت أسمع في طفولتي أن معمر القرية الجد (اسكندر) نبتت له أسنان جديدة بعد أن بلغ المئة! لكني أرجو ألا أقارب تلك العتبة، ولا أحب القرون وأصحاب القرون.
وأود أن أظل منسجما مع أفكاري، وبخاصة أن أحد أعلام الصوفية الكبار أفادني أن “الروح شعاع من سراج الغيب”. وهذا يعني أن الشعاع سيعود إلى مصدره في الفضاء الكونيّ، بلا عناء ولا خوف ولا ألم…
بعد الاستيقاظ بدقائق، أظل مستلقيا على ظهري وأقوم بأخذ عشرة أنفاس (شهيق عميق وزفير بطيء) ثم أبدأ التمارين الصينية للأطراف والرقبة والجذع، وكل عضو أحركه 36 مرة- كما علمني المعالج الصني لآلام الرقبة والظهر (الديسك) والأطراف العليا والسفلى؛ ويتراوح مجموع الحركات بين 360 و400 حركة. والمفاجأة المنعشة بعد هذه التمارين أني أقف مستقيم الظهر منتصب القامة، في حين لا بد لي من الانحناء والمشي بظهر مقوس، رغم الاستعانة بالعكاز، إذا نهضت قبل القيام بأي رياضة. وهي تسهم بلا شك بتليين الأعضاء وسهولة الحركة.
لكن الخطوة الثانية والمهمة من استكمال العلاج الصيني تقضي أن أتناول كأس ماء ساخن مع قطعة ليمون وعدة حبات من الزيتون الشهي (8-10) لا أكثر.. ومن يتقبل ملعقة متوسطة من زيت الزيتون الجيد، فهذه دواء للخلاص من وجع الظهر والمفاصل، على أن يكون زيتا غير مغشوش.
أما عطب القلب، بعد الإصابة بالجلطة وأسبوع العناية المركزة والبالون، قبل عشرين سنة، فقد قال لي ذلك الطبيب الودود: المشي هو العلاج الأهم، مع حبة الإسبرين وأدوية الضغط… وعملا بنصيحته ذلك الحكيم العزيز، لم أواجه بعد ذلك أية متاعب قلبية.. حتى نزوات العشق الموسمية الطارئة تنساب رهوا كأنسام الصيف بلا أي ضيق أو نكد أو إزعاج! ومن المؤكد أن تحاشي الدخان والتدحين أهم عادة صحية.
الإفطار ينبغي أن يكون خفبفا، مع كأس الشاي المتوجة بقطعة ليمون بلا سكر., وقد تخليت عن السكر الصناعي نهائيا منذ ثلاث سنوات، وأكتفي بقليل من معقود الفاكهة، أو بحبتي تمر أو شموطي تين، بحفنة زبيب أو ملعقة دبس أمزجها بملعقة لبن، كما كنا نفعل أيام الطفولة والصبا، قبل أن نعتاد على سكر المدينة. وأذكر، أيام عملي في الصحافة قبل ما يزيد عن خمسين سنة، أن مجلة Time الأميركية نشرت مقالا مستفيضا عن مضار الملح والسكر، وكتبت على غلافها عبارة (الوغدان): The Two Villains وهي تعني الأبيضين الضارين كليهما.
هذه مجرد همسات صباحية لنفض غبار النوم وتحريك العضلات والأعصاب والمدارك، بعد نوم 6/7 ساعات في أقل تقدير. وكم أتمنى من صديقاتي وأصدقائي الشباب الذين تجاوزوا الستين أن يتابعوا هذا البرنامج، إذا شعروا بفائدته بعد تجريبه ما لا يقل عن شهر. لكن استكمال إنعاش الذاكرة وتنشيط الفكر والحواس يقتضي تمارين إضافية، فكرا ورسما وكتابة. بعد تناول كأس الماء الساخن والإفطار، أستحضر من محفوظاتي الشعرية أيام الشباب عشرة أبيات، وأكتبها في ملف خاص أخذ يضم بضعة ألوف كانت غارقة في غيابة الإهمال، ولا أكتفي بتذكر هذه الأبيات وتدوينها، إنما أدندن بها بصوت مرتفع لأن حبال الصوت أصيبت بعطب من قسوة الثلج خلال زيارتي لسور الصين العظيم، ولم يستطع صديقي الدكتور نزار فرح أن يجد لها العلاج الشافي من (الخشونة) والبحة المزمنة.
وبعد الشعر، يأتي برنامج الرسم اليومي. واللغة الصينية التي دخلت اليابان في القرن الثالث/ الرابع الميلادي بفضل الكهان البوذيين، هي عبارة عن رسوم: الجبل (ياما) هكذا:山، والنهر (كاوا): 川،والطريف أن شكل كلمة (الماء) نهر مضغوط الضفتين، كمن يغرف ماء النهر بيديه، وصورته هكذا: 水، وكل صباح أمضي نحو عشر دقائق مع رسوم كلمات خمس جمل من هذه اللغة وصورها الهندسية المجردة، المستلهمة من الطبيعة. لغة مقطعية ذات إيقاع شعري عذب. ولهذا، كانت قصيدة الهايكو شعرا يابانيا خالصا، وتقليد الغرب له يبدو مضحكا، لأن الشعر لغة الروح.. والأرواح لا تقبل التقليد ولا تطيق التزوير.
بعد انتهاء هذه الهدنة الصباحية، يبدأ برنامج القراءة والكتابة. ويطيب لي أن أشير إلى بعض الكتب التي كانت عزاء جميلا في حصار الجائحة والركون الطويل في البيت، ومنها: “حداثة ظهرها إلى الجدار” للدكتور حسن مدن، وهو من أهم الكتب التي قرأتها وأعيد قراءتها بمتعة واستغراق. والباحث يعني أن الحداثة العربية، وفي الخليج أساسا، تركز على الجانب المعماري، في حين تهمل الجوانب الفكرية والثقافية والاجتماعية. وكتاب: “تراث الاستعلاء.. بين الفولكلور والمجال الديني” للأستاذ سعيد المصري، منطلقا من دلالة الاستعلاء عند سيد قطب، داعية التطرف والتكفير في الإسلام السياسي. ورواية “بيت في الدنيا وبيت في الحنين: لإبراهيم الكوني… وأكتفي بالإشارة إلى هذه الكتب آملا أن أتداول في موضوعاتها مع الأصدقاء مستقبلا.