… حتى الفالج يعالج
حتى الفالج يعالج .. حين التقيت بالمفكر الفرنسي (جاك لونغ)، أحسست منذ المصافحة الأولى أنّني في حضرة سيّد لم تغب شمسه، يتجدّد بعد كلّ مواجهة مع غلاة اليمين وعشّاق التحجّر، هطل الشيب-كما الأفكار- على رأسه مبكّراً، لكنّ قامته ظلّت عصيّة عن الانحناء وقميصه متحرّراً من ربطات العنق.. وصوته واضحاً وصريحاً – وأحياناً هادراً -مثل حركة ماي /أيار 68 التي كان من منظّريها .. والتي أجبرت شارل ديغول على الاستقالة.
ساند جاك لونغ الحركة الطلاّبيّة الفرنسية حين نزلت إلى الشارع في مثل هذه الأيام من شهر ماي/أيار69 وقالت لزعيم التحرير ومؤسّس الجمهورية الخامسة: (شكراً لنضالك يا سيد الإليزيه، ولكن عليك أن تتنحّى لأنّ فرنسا اعتادت دوماً أن لا تنظر إلى الوراء إلاّ بغضب).
توالت الحكومات بعدها (عبر صناديق الاقتراع طبعا)، من جورج بومبيدو إلى جسكار ديستان، وصولاً إلى ثعلب الاشتراكيين والروائي الذي ضلّ طريقه فرنسوا ميتران … وصار( جاك ) الغاضب وزيراً للثقافة وقد أمسك بالحقيبة التي كان يحملها الأديب (أندريه مالرو) في أيام ديغول .
سألت (جاك لونغ) السؤال الذي ربّما كان ينتظره من شبه مواطن (عالمثالثي) ما زالت حكوماته تعتبر الثقافة أقلّ من الحاجة بقليل وأكثر من الترفيه بقليل:
-هل وصلت فعلاً إلى الرقم الذي كنت تنشده أثناء تولّيك الوزارة، وهو تخصيص2%من ميزانية الدولة إلى وزارة الثقافة؟
-لا ليس تماماً، تجاوزنا الـ 1,5% بقليل… يبقى الأمل موجوداً .
قد يبدو الرقم بسيطاً لمن لا يتقن الحسابات مثلي، ولكن، هل تعلم عزيزي القارئ أن ّ2% من ميزانية فرنسا تعني عشرات المليارات، بل وما يقارب ميزانية دولة نفطيّة بأكملها، عداك عن مصادر التمويل الأخرى كوزارة الخارجية وبعثاتها الثقافية والاتحاد الأوروبي وصناديق التنمية من مختلف مشاربها.
إنهم ببساطة يستثمرون في الإنسان لأنه البئر التي لا ينضب عنها النفط والحقل التي لا يهدّدها الجفاف ولا الجراد… السوق التي لا تتأثّر بالمضاربات… والسحابة التي إن وعدت وفت.
حين تعالت أصوات اليمين المريض تندّد بشغب أبناء المهاجرين في الضواحي الباريسيّة وتطالب بترحيلهم إلى (أوطانهم)الأصلية، أصدر جاك لونغ كتاباً يناقش فيه المتذرّعين بـ(الصدمة الثقافية) والناظرين إلى الواقع بعين حولاء .
قال لهم برأس بارد وقلب ساخن: تمهّلوا,إنّ السياسة الجائرة هي المسؤولة عن شغب أولئك الذين يعانون البطالة والحرمان، لا تسحقوهم يبن مطرقتكم وسندان بلادهم فتجعلوا من غربتهم غربتين، لا تنسوا أنّ هؤلاء هم أحفاد الذين بنوا فرنسا بعد الحرب، بل ومنهم من شارك في تحريرها من الحكم النازي رغم أنّنا كنّا نحتلّ بلاده وننهب ثرواتها، ثمّ لماذا لا تنظروا إلاّ للمارقين والمهمّشين والمتطرّفين، أنظروا إلى العلماء والباحثين والكتّاب والفنّانين منهم… ما قيمة لغة موليير إن لم تكن أمّاً تحضن أعراقاً مختلفة، ألم يساهم هؤلاء عبر الضرائب في هذه الموازنة المرصودة للثقافة.؟
قطع حديثنا خبر عاجل عن أعمال الشغب وحرق السيارات في الضواحي الباريسيّة، خجلت قليلاً ونصحته بأن يفعل ما يفعله ابن عمّي: يضع مصحفاً ومسبحة على لوحة السيارة أمام المقود، فتسلم من الحرق والخلع…. لكنّني استدركت، لقد حاول بعض الفرنسيين أن يحذوا حذو المهاجرين فلم تسلم سياراتهم من هذا الانتقام الأعمى… لا بدّ أن ّ في الأمر سراً ..!؟.
-أجاب: أنا أتنقّل في الغالب على قدمي.