كأسك من “الينسون”
كأسك من “الينسون” …طلب مني أحد الصحفيين المتخصصين في الشؤون المحلية التونسية أن أقترح عليه موضوعا راهنا وساخنا يمكن طرحه في جريدته فقلت على الفور: اكتب عن أزمة انقطاع السجائر الوطنية، وكذلك عن ارتفاع أسعار “المشروبات الروحية” بشكل فاحش. أجابني على الفور، ونحن نحتسي بعض “المشروبات الروحية” وسط سحابة من الدخان في نادي الصحفيين: وهل تريد أن تلعنني العائلة والجيران، وتصفني حماتي ـ من جديد ـ بالسكير العربيد ثم ما عساه أن يكون موقف زوجتي أمام صديقاتها؟
أسقط في يدي ومضيت أقترح عليه مواضيع مكررة و”محللة” على شاكلة ارتفاع أسعار البطاطا والبصل أو حتى مقترحات لا تهم الأحياء، كاكتظاظ المقابر وإحجام التونسيين عن النسل والتكاثر والإنجاب.
هكذا ندير ظهورنا في الإعلام الرسمي والعمومي لقضايا غاية في الحيوية، وذلك لاعتبارات “أخلاقوية” فنبحث عن مفقوداتنا في بقع الضوء وتحت عواميد الإنارة.
كمّ هائل من التونسيين يشربون ويدخنون ويتراشقون بعبارات ما تحت الحزام في محلات لا يتباعدون فيها أبدا ثم يعودون إلى بيوتهم وهم يغالبون ترنحهم ويستقوون على رائحة الخمر بالعلكة ذي نكهة النعناع.
ربما أكون محظوظا أني أعيش في مجتمع نزق وبلا أسرار، لكن غالبية الشعوب العربية تظهر عكس ما تبطن، وترتدي قناع الابتسامة والملاطفة والرضاء عن كل شيء حتى تبدو السماء زرقاء دائما، والعصافير تزقزق عند كل ساعات الليل والنهار، في حين أنهم يمشون في “شارع الضباب” غير واثقين من “خطاويهم”.
الإعلام العربي يستمر في تغييب نفسه عن حقيقة المشهد الاجتماعي وعدم التطرق إلى الجوهري والمعاش والحساس بحجة التعفف، وصون الأخلاق العامة التي تحتاج بدورها إلى صيانة دائمة بل وإلى تقويضها من أساسها.
هذه الازدواجية في الأحكام والمعايير صنعتها منظومات اجتماعية وسياسية فاسدة، تقول ما لا تفعل، وتفعل ما لا تقول، حتى أصيب الجميع بالانفصام فتفتح الجريدة أو شاشة التلفزيون فتحس وكأنك إزاء مجتمع آخر.. مجتمع لا وجود فيه للسكير والمدخن والماجن والمتطرف، ولا حتى المثلي أو اللاديني أو صاحب الاحتياجات الخاصة.
إن ما يكرسه الإعلام الموجه والحذر من كل ما من شأنه أن يصدّع الرأس، هو مجتمع هلامي وعديم الملامح، وذلك عملا بتلك المقولة العمياء “الباب اللي يجيك منه الريح سدّه واستريح”.
يبدو هذا التعامي واضحا في الدراما التلفزيونية التي تتذاكى على الرقابة في بعض البلدان العربية فترى شخصيتين تقفان عند البار ويشربان العديد من أقداح الشاي والينسون وغيرها من منقوعات الأعشاب.
وبالعودة إلى صديقي في “النادي الرياضي” ـ عفوا في نادي الصحفيين ـ ونحن نحترم التباعد الاجتماعي ونحتسي النعناع والينسون، فإن السماء من فوقنا كانت شديدة الزرقة، والعصافير تزقزق إلى لحظة كتابة هذه السطو