الخوف من الخوف
الخوف ..الطفل الذي تعلّم المشي حديثا يركض في كل ّ الاتجاهات، يرتطم بالحيطان ويتعثّر بالكراسي والخزائن والأدراج، يقع على جبهته ومؤخّرته، يبكي قليلا ثمّ يقوم، يعاود الكرّة مرّات ومرّات أمام ابتسامة والديه حينا وحذرهم وخوفهم عليه أحياناً أخرى… سوف يكبر هذا الطفل، ينسى الكدمات ويتعلّم الخوف.
الخوف من المرئي والمخفي، من المنظور والمجهول، من فرن الغاز وأشرطة الكهرباء والطوابق العليا والسيّارات المسرعة وحفر الطريق وصافرة الشرطي… ونظرة الناس والقانون والأخلاق إليه.
الخوف من تبعات الماضي ومواجهات الحاضر وعواقب المستقبل، أي الخوف من الحياة والموت على حدّ سواء..
ما هذا الطوطم الذي تشكّل مع بدايات وعينا وظلّ يرافقنا حتّى وقوعنا في آخر حفرة اسمها القبر!؟..
قد يعرّف الخوف بأنّه آليّة الحفاظ على استمرارنا، ولكن، أليس هو الذي قد يعيق قدراتنا ويكبّل أيدينا ويكمّم أفواهنا فيعيق استمرارنا فاعلين ومنفعلين؟!..
تعلم البشريّة عبر مسيرتها أنّ الأيادي المرتعشة لا تقوى على البناء وأنّ الجبناء لا يصنعون التاريخ.
الخوف من عبارة (آآآخ..) ـ عدوّاً كان أم محايداً ـ هو نصف الهزيمة، إن لم تكن الهزيمة كلّها.
يستقوي الإنسان والحيوان وحتّى الزمان على الخائف منه بوعي أو بغريزة.
أثبت العلم أنّ رائحة حمض نوويّ يطلقه جسد الفرد الخائف يثير الحيوان ويزيد من عدوانيته تجاهه، وثمّة حادثة قد جرت في إحدى المحميات الحيوانيّة تؤكّد ذلك وهي قصّة تسلّل طفل في بداية عامه الثاني من سيّارة والديه وفي غفلة منهما ركض نحو نمر ينعم بالظلّ والهدوء تحت شجرة وارفة، اعتلى الطفل ظهر النمر، لمحه الأبوان فجأة من خلف زجاج السيّارة المصفّحة، تخيّلوا هول الصفعة (فلذة كبدهما بعد ثوان ستصبح لقمة طريّة بين فكّي النمر) نزل الطفل (الشجاع) من على ظهر النمر واستدار إلى رأسه، طرد الذباب من عينيه، صفع الحيوان بيده الصغيرة ثمّ قبّله من وجهه (ربّما يظنّه والد القطّ الذي عرفه في صالون بيتهم)، تجشّأ النمر فبانت أنيابه أمام الأبوين الذين شارفا على مفارقة الحياة دون أن يستطيعا صنع شيء، رفع يده بكلّ ما أوتيت من مخالب وحضن الطفل الصغير ثمّ التفت برأسه نحو السيّارة وكأنّه يقول له :عد إلى والديك (قبل أن أجوع)، عاد الطفل إلى والديه مبتهجاً وهو يشير بيده إلى النمر (ربّما يريد من أبيه أن يقتني له هذا القطّ الكبير إلى البيت)… انتهى المشهد بعودة العائلة السعيدة إلى بيتها وبانكفاء النمر إلى مطاردة غزال شرود ونزق وخائف ومن ثمّ خلافه حول الفريسة مع نمر آخر أشدّ قوّة منه، هرب منه، لاحقه القوي لأنّه اشتمّ فيه جبناً وخوفاً… وتستمرّ ملاحقة القوي للجبان والجبان لمن هو أجبن منه إلى أن يملك الله الأرض ومن عليها.
همس لي أحد الظرفاء يوماً بأنّه يكره الكحول والحشيش على حدّ سواء، ليس فقط لاعتبارات صحيّة وأخلاقيّة وقانونيّة بل لأنّ الأوّل يعلّم الشجاعة دون سبب والثاني يعلّم الخوف دون سبب.
نعم، إنّ الخوف دون سبب يشبه الشجاعة دون سبب وقس على ما بينهما من تبريرات توازنيّة قد تقنع نظريّاً ولكنّها لا تصحّ عمليّاً كالتسرّع والتهوّر من جهة والسلبيّة وعدم المبادرة من جهة أخرى.
أغلب الاعتقاد أنّ الخوف ـ كما الشجاعة ـ مكتسب ، ولكنّ شيئاً منه يورّث عبر الجينات الخلقيّة والمعطيات البيئيّة.
كلّ فعل إنساني هو دحض للخوف، من ركوب الأهوال إلى السفر إلى الكتابة إلى المجاهرة بالأفكار والعواطف والأهواء والنّزعات.
سوف نموت حتما، ولكن بإمكاننا أن نختار أسلوب موتنا بطريقة تليق بالحياة التي عشناها وأهديت إلينا، وحده النسر يموت رافع الرأس ولا يدفنه تحت جناحيه كما تفعل بقيّة الطيور.
*كلمة في الزحام :
ما أجمل أن يقول حبيب لحبيبته في لحظة كارثيّة: عديني أن لا تموتي إلاّ دافئة وباسمة في فراشك وتحت أعين أبنائك وأحفادك، عديني أن تبقي جميلة… فتردّ عليه: عدني أنّ الشمس ستشرق غداً وأنّ العشّاق سوف يزورون قبرينا هناك, هناك حيث لا يغادرنا الربيع أبداً.
إليك أيّتها التي أغمضت عينيها وهي تمسك بيدي المرتعشة و تهمس: لا تخف إلاّ من الخوف.