ضد مجهول
ضد مجهول … المجزرة الكيميائية التي كان مسرحها غوطة دمشق وجمهورها عالم يكتفي بالتفرّج وبعض التنديد هي – ومهما كان فاعلها – قد أسدلت الستار عن آخر ما يمكن انتظاره من إنسانيّة أصحاب القرار في هذا العالم “المتحضّر”جدّاً!
تعالت الصراخات بين مستنكر ومهدّد ومتوعّد، وتضاربت الآراء بين محلّل ومصدّق ومكذّب … حصّل ما في الصدور وغداً تجفّ السطور و ينبت العشب فوق القبور كما يحبّ عشّاق السجع أن يزيّنوا كلماتهم بكل مفردات الدمار .. وتنتصر اللغة كعادتها بصورها وبلاغتها على الدماء والجثث والأشلاء .
غداً يقام نصب تذكاريّ لأطفال الغوطة في ذكرى إحياء ” الكيمياء السورية” وقد ينحني أمامه مجرمو الأمس لوضع أكاليل الزهور ويرفعون أياديهم لقراءة الفاتحة أو رسم إشارة الصليب.
لقد بدأنا فعلاً في التحضير لهذه ” المراسم” عبر إنزال إشارات الحداد من صفحاتنا الفيسبوكيّة والبدء بلغة “النكز” والتحرّش والتعارف ومن ثمّ التدرّج في رواية النكت والطرائف والتخفيف من دمنا المتبقّى في عروقنا.
أمّا عن “القتلة غير التنفيذيين” من الحاقدين والشامتين والطائفيين والمغالين في موالاتهم للقتل والتطهير فلا يحرّك الأمر في نفوسهم الدنيئة شيئاً, بل سيحوّلون طقوس “الإحياء” على شكلانيتها إلى مظاهر “احتفال ” بهيجة وكأنهم من أحفاد هولاكو.
ضد مجهول
هي “مصائب القوم” و”فوائدها ” معاً عند “نفس القوم” … أليس هذا من عبثيّة هذا المسرح الذي أتقن فيه الممثّلون لعب أدوارهم إلى حدّ الموت تقمّصاً.
الأمر المحيّر في هذه العاطفة “المناسباتيّة” الجيّاشة لدى الذين مازال في وجههم ماء ونظر هو أنهم لا يكترثون للموت إلاّ إذا كان غريب الطريقة فظيع المشاهد كما يفعله السلاح الكيميائي والمبيد البشري …. ألا يحدث القتل كل يوم ؟ ألم تعد تستفزهم الطرق “التقليديّة ” ….أم أنّ النفس البشريّة تنزع بطبيعتها نحو الفانتازيا والتفنّن بأساليب الإبادة … لعلّ ذلك شكلاً من أشكال” التطهّر” على طريقة المسارح الاغريقية والرومانية القديمة في حلبات مصارعة السباع والتي تجعل الواحد يبتهج في قرارة نفسه ويشكر الإله والحاكم على عدم اصطفائه لأداء ذلك المشهد.
هل يغفر الله والتاريخ والإنسانية للقاتل “الرؤوف” من أولئك الذين يستخدمون رصاصاً معطّراً أو مقصلة رحيمة أو مشنقة حريريّة أو سكيناً من ذهب ؟
قد يختلف الحزن إن توشّح بأنغام الموسيقى الجنائزيّة في القصور المخمليّة عن ذاك المعفّر بالغبار والتشرّد والدمار، وقد يضيق ويتّسع حجم العيون والفراغ وجلل المصاب … لكنّ مذاق الدمعة واحد وإن تكحّلت الأهداب أو لم تتكحّل.
المأساة هو أن يصبح القتل ملهاة كتلك القصص التي يرويها الناس ويتبادلونها وهم يضحكون عن القنّاصة والميليشيات في الحروب الطائفية … إنهم يضحكون لأنهم – ببساطة شديدة – ليسوا من ضحاياها.
الفجيعة هو أن يصبح مصيرك نزوة بين إصبع وزناد أو رهاناً بين رام هاوٍ وآخر محترف … أو “ضحيّة” لفتوى سياسية مدفوعة الثمن ومباركة من فقهاء الظلام.
الكارثة أنّ من نفّذ مجزرة الغوطة سيسخر حتماً من هذا الكلام إن وجد الوقت لقراءته أو قرؤوه عليه، سينعتنا بالجهل وقصر الرؤية، بل بضعف الوطنية والعقيدة وولائنا للـ”أجنبي” …. سيستنكر استنكارنا ويتمنى إلحاقنا بسجلّ بطولاته وعمله المسؤول أمام الله والإنسانية والتاريخ .
كلمة في الزحام:
… أمّا التراجيديا الأكثر احتمالاً وفجوراً فهي أنّ القاتل سيدين فعله ويذرف الدموع أكثر من أهالي الضحايا وهو يمشي في جنازاتهم متأبّطاً دفتراً كبيراً وخفيّاً على العيان وقد كتب عليه:
“ضد مجهول “!