كاتب كلمات
بعض كتبة التقارير الإخباريّة في الصحافة العربيّة يلجؤون إلى عبارة (كاتب هذه الكلمات) بخجل وتواضع مفتعلين حين يتعلّق الأمر بشخصهم في صياغة الخبر أو المشاركة فيه .. وذلك ظنّاً منهم أنّهم يوفّقون بين مهنيتهم في الحياد الإعلامي من جهة وضرورة نقل الحقيقة دون تغييب أنفسهم من جهة أخرى.
الأمثلة كثيرة في أوراقنا الصفراء، فهذا يكتب على لسان الضيف المحاور في معرض ردّه :(سؤال نبيه وفطن وذكي منك ),(كما ذكرت أنت في إحدى مقالاتك) وآخر يعلّق تحت صورته بعبارة (..ويظهر كاتب هذه الكلمات يشد على يد النجم فلان مبتسما)، (الشخصيّة الفلانيّة تتجاذب أطراف الحوار مع كاتب هذه الكلمات)، (كاتب هذه الكلمات في المقعد الرابع على اليسار )، (كاتب هذه الكلمات غير موجود في الصورة)..الخ.
يختفي ضمير المتكلّم لغة أي نحواً وصرفاً في الكتابة الصحفيّة ولكن .. هل يختفي أخلاقاً ورسالة ؟هذا سؤال في عهدة رجال السلطة الرابعة على كلّ حال.
أمّا الصحافة بالنسبة لي شخصياً فشرف لا أدّعيه إذ أطلّ منها عبر هذه النّافذة بمزاج المتحدّث والحكّاء المستطرد يميناً ويساراً دون ضوابط تقنيّة محاولاً أن أمدّ وأمتدّ بقلمي على قدر كساء الورق الافتراضي والمتاح.
أصارحكم القول أنّ هذه المقدّمة المكتوبة بمكر الأطفال لم تكن إلاّ ذريعة للحديث عن كاتب هذه الكلمات في إقامته الإسكندرانيّة أيام تلك الوداعة وزمن ذاك الهدوء ـ وإن كان كاذباً ـ ضمن الملتقى الدولي للفرق المسرحيّة المستقلّة أوروبا البحر المتوسّط الذي تنظّمه أقدم مكتبة في التاريخ.
يشارك في الملتقى ستة وعشرون بلداً و كان لـ(كاتب هذه الكلمات) شرف تمثيل بلدين هما سوريا وتونس بمسرحيّة (بساط أحمدي) النص العربي الوحيد الذي اختير مع خمسة آخرين للترجمة والنشر بالانكليزيّة والعربيّة في طباعة بالمواصفات الراقية.
التقيت بهؤلاء الكتّاب العالميين ضمن ورشات عمل متخصّصة وهم:(مايا شترومار) السلوفينيّة ابنة مدرسة جاك لوكوك والحائزة على جائزة ستين سيفير 91 و(ايفون كاديل) السكوتلانديّة و (روز ماري بوياركوف) النمساويّة و (اوسكار فن فونسل) الهولندي و(توماش كاتشماريك) البولندي.
أعتقد أنّ من حقّي أن أفخر بهذا التكريم الذي جاء من هذا الملتقى الإبداعي الذي لا يتحيّز إلاّ للكتابة الصادقة و المسؤولة وعلى أرض مدينة الإسكندر الأكبر، منارة التنوّع الثقافي ومهد الحب الضروس بين الضفّتين : كليوباترا وانطونيو.
لعلّ ما يخفّف من تعب الندوات والالتزامات الصباحيّة هو لقاء الأحبّة والأصدقاء: الشاعر الصعلوك جرجس شكري، الناقدة المعتّقة “منحة البتراوي”، الأكاديميّة المحتفية أبداً بالابداع “نهاد صليحة ” وآخرون من المشرفين والمنظّمين الذين إذا ذكرت أسماءهم سوف أتّهم بمثل ما يتّهم به أولئك (أي كتّاب الكلمات) الذين يغطّون المهرجانات العربيّة ويحرصون على ضمان العودة في الدورة القادمة على طريقة (دايمة بالأفراح. . رح نعيدها السنة الجاية).
من حق العرب أن يفخروا بهذه المكتبة التي تضاهي معهد العالم العربي ومركز بومبيدو في باريس وبيت ثقافات العالم في برلين بل قد تتفوّق عليها من حيث النفائس والمخطوطات والتجهيزات.
غادرت الحروب والضغائن هذا الشاطىء العجوز وبقيت الكتب وآثار الخواجات الثقافيّة وحتميّة الاعتراف بالآخر…
إنّي أراك لأنك تراني وأنصت إليك لأنك تنصت إلي.
النّدوات واللقاءات لا تخلو من المتطفّلين والظرفاء والغلظاء على حدّ سواء، مدّ لي أحدهم ببطاقة ملوّنة ومذهّبة قائلاً: تفضّل سعادتك، ده الكرت بتاعي.
ـ متشكّر يافندم، ممكن أعرف حضرتك بتشتغل ايه؟
ـ بصّ يا باشا، ده اسمي ودي شغلتي: كاتب كلمات…”
….أي “شاعر شعبي غنائي” في مصر …أي يبيع الماء في حارة السقائين…وسقا الله أيام السقائين، حين كان المصري لا يتقن إلا “مصريته” المحببة في صناعة النكتة وإن كانت خامتها من الألم.
*كلمة في الزحام …أين من عينيك اليوم تلك الوداعة المصرية والظرافة وخفة الدم التي تعطّر الجلسات ……هذا الدم لم يعد خفيفاً ,بل ثقيلاً ومستباحاً ويشوّه أحفاد أعرق الحضارات.
06.01.2014