لا ماء في حارة السقائين
لا ماء في حارة السقائين …حين دخلت محرك البحث على الانترنت مقتفيا أثر آخر ما وصلت إليه قضية “المدرّسة المصرية التي ترقص دون حياء” على حد تعبير المتحجرين، وجدت إلى جانبها على صفحة الموقع، لوحة شهيرة لمستشرق فرنسي شاب عاش في القاهرة منتصف القرن التاسع عشر، وهو جان ليون جيروم، الذي تتلمذ على يد الفنان بول ديلاروتشي.
يقدم جيروم ضمن لوحته الراقصة المصرية في أجمل تجلياتها عبر اللون والتشكيل الجسدي، وكانت نساء الغجر وقتها، يؤدين الرقصات للسياح والأوروبيين المستشرقين وكل من يأتي لاستكشاف هذه البلاد.
وكذلك فعل أقران جيروم من المستشرقين وكأنهم يمهدون لهذه الموجة من الإقبال على الرقص الشرقي لدى الغرب الأوروبي والأميركي، في الوقت الذي يتقهقر فيه هذا الفن في بلده الأم حتى أمسى جريمة يعاقب عليها القانون كما في قضية المدرسة المصرية وزملائها.
إذا كان هناك من قضية تثار في فيديو المدرسة المصرية وزملائها، فهي انتهاك الخصوصيات الفردية واستخدامها في حملات الترويج للكراهية والتحريض على مواقع التواصل، أما ما عدا ذلك فضرب من تكريس التخلف ومعاداة تقاليد مجتمع بأكمله.
إن مصر دون فنون رقصها الشرقي والشعبي ـ مع ادارك الخصائص الفنية والتاريخية لهذين الصنفين من الرقص ـ هي أشبه بمصر دون أهرامات، ذلك أن المقابر الفرعونية نفسها، تمتلئ برسومات لفتيات تؤدين طقوس الرقص كأقدم أنواع التعبير البشري.
ومن البديهي التذكير بأن الرقص الذي تحرمه العقول المتحجرة على الفتيات، أنه ارتبط بالنساء بسبب التقرب من الآلهة طلبا للمطر أو المحصول الجيد، وكان من الطبيعي أن تؤدي النساء وهن رمز الخصوبة والحمل والولادة هذه المهمة كنوع من التقرب للآلهة في الحضارات القديمة.
هذه المدرّسة المصرية التي تبدو شديدة التلقائية، كان بإمكانها أن تجد لها في نفس المدرسة التي تعمل فيها زميلات وزملاء لتعليم فنون الرقص كما هو الحال في المدارس الغربية الحديثة، خصوصا وأنها تنتمي لبلد عريق في فنون التعبير الإنساني.
أما أن تقابل بمثل هذا الاستهجان الدي وصل حد التحريض والاتهام بالانحلال الأخلاقي، فهذا يعنني أفول مرحلة مضيئة في تاريخ مصر والدخول في نفق التحجر والتنكر لروح البلد الذي عرف بتسامحه وإقدامه على الحياة عبر شتى أنواع الفنون والترفيه.
إنه لأمر شديد القتامة أن تتحول منصات التواصل إلى استباحة خصوصيات البشر وكيل الاتهامات، خصوصا من خلال فن شعبي ضارب في القدم كالرقص الذي من أبسط شروطه أن يكوون تشاركيا، فهل يضطر الواحد أن يقفل الباب على نفسه كي يعبر عن مشاعر مجتمعية تقتضي المشاركة والاحتفال.