ديمقراطية إشراك الجميع في الفوضى والفساد
ديمقراطية إشراك الجميع في الفوضى والفساد .. ما نفع نزاهة العملية الانتخابية في المسار الديمقراطي إن كان بإمكان المتنافسين التسابق على شراء الذمم وكسب الأصوات مقابل بعض المواد التموينية كما هو الحال في تجربتي الانتخابات البرلمانية في بلدين عاشا ما بات يعرف ب” الربيع الربي” وهما تونس ومصر، وإن كان ذلك بشكل نسبي ومتفاوت.
الحريات ليست حالات رفاهية بطبيعة الحال، لكنها لا تأتي على سلم الأولويات في عالمنا العربي، ذلك أن الفقر أعمى، ويضلل صاحبه فيزين له طريق الغواية والخنوع لرأي ولي النعمة وإن كان مستبدا.
لقد عانت تونس من التضييق على الحريات في عهد حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وهاهي تُصنف اليوم، وبعد 14 يناير 2011، كأكثر البلدان ممارسة لحرية التعبير إلى حد الشطط، لكنها تصنف أيضا كواحدة من البلدان الفاشلة اقتصاديا، ومعرضة للمزيد من الأزمات الاجتماعية التي من شأنها أن تعصف بهذه الديمقراطية الناشئة.
ولا يختلف اثنان في أن عددا كبيرا من التونسيين يتحسرون اليوم على زمن حكم الرئيس السابق وما حققه من استقرار اجتماعي ونسبة نمو إيجابية مع بعض الرخاء الاقتصادي، مقارنة بما يعاش اليوم بعد ” ثورة الحرية والكرامة”.
لم تفد حريات التعبير التونسيين إلا في تفاقم وتنامي الحركات الاحتجاجية والدعوة إلى المزيد من الإضرابات، فالأفواه التي كانت بالأمس مكممة وصائمة عن الكلام، صارت اليوم حرة لكنها تكاد تكون مهددة بأن تصبح صائمة عن الطعام. مارس التونسيون حرية التعبير بعد جوع طويل حتى بدأ يتقبؤها مثل حادثة زوربا والكرز في رواية نيكوس كازنتزاكي، ذاك أقبل على تناول هذه الفاكهة بنهم شديد جعله يقرف منها ويتجنبها بل ويناصبها العداء. تكاد تكون هذه قصة التونسيين مع الحريات بعد 14يناير 2011، ويضاف إليها نوع من الحنين إلى ” حريات أقل مع فرص عيش أوفر”.
الديمقراطية في تونس مكنت الفاسدين من التغول أكثر، وسعت من قواعدهم وجعلت المسؤولين ينهبون بمنتهى الحرية بعد أن كانوا أقلية في زمن حكم بن علي، الأمر الذي جعل المتذمرين من هذه الوضعية يرون بأن لو عاد بن علي إلى تونس لانتخبه الجميع بأغلبية ساحقة، وبمنتهى الحرية.
هل من سخرية الأقدار أن يبكي التونسيون على أيام كان ” يبكي منها”؟ هل أطلق المحرومون ثورة الكرامة والحرية ضد أنفسهم، وهل قايضوا الرغيف بالحرية؟
قد يتفهم المرء حساسية أي تغيير سياسي وما يرافقه من تقويض واهتزاز في بنى اجتماعية واقتصادية وآليات إدارية من الصعب استعادة توازنها في فترة وجيزة، لكن سبع سنوات مرت دون تحقيق أي تقدم بل ساءت الأمور أكثر مما كانت عليه.
هل كان النظام السابق يرشي مواطنيه بالحد المعقول من النماء الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي مقابل صمتهم أم أن الأمر يتعلق بمعادلة في غاية الدقة والخطورة، وهي أن الشعوب العربية تحتاج إلى ” دكتاتوريات وطنية”، تعرف مصالح شعوبها أكثر من شعوبها، فتعمل وفق منطق الراعي الحريص، والذي يفكر ويبادر ويقترح الحلول على العامة دون أن يسمح لها بالنقاش؟
ليس الأمر انتصارا لمقولة مفادها أن شعوب العالم الثالث غير جديرة بالديمقراطية، لكن الحريات لمن لم يتعود عليها تكسب نوعا من الانفلات والتراخي والنزوع إلى عدم تحمل المسؤولية بل وتشجع على الفساد والسرقة في غياب عنصر الردع.
الديمقراطية، وحتى في بلدان المنشأ، لها سلبياتها ومواطن ضعفها، كما أن لها أوجها متعددة وملتبسة من الاستخدامات، بدليل أن بلدانا غربية ضالعة في الديمقراطية قد تصدت إلى حركات احتجاجية باستخدام مفرط للعنف.
” قل ما تشاء ونحن نفعل ما نشاء”، هذا هو منطق الليبرالية المتوحشة منذ نشأتها، وكلما تحسست النظم الرأسمالية خطرا يمكن أن يحدق بها من خلال هوامش الحريات كإسفنجات للامتصاص والتنفيس، سارعت إلى سد الثغرات بوضع قوانين زجرية باسم الديمقراطية وتحت يافطتها.. وهكذا تصبح الديمقراطية آلة قمعية ووسيلة دفاعية لصالح نظم فاشية في جوهرها، لكنها ترتدي قفازات حريرية.
التهم جاهزة ومفصّلة سلفا حسب القياس لكل صوت يعلو مطالبا بالعيش الكريم في غالبية النظم المتشدقة بالديمقراطية، فمن يستمر في مظاهراته ضد الضرائب المجحفة وغلاء الأسعار، يُتهم ب ” تجاوز الخطوط الحمراء “، تعطيل الحياة المدنية، وقد يصل الأمر إلى تهمة ” العمل لصالح جهات إرهابية”.
ومن يحتج ضد احتكار أقلية معينة لرأس المال وتلاعبها بلقمة عيش المواطن، تنتظره تهم جاهزة اسمها نشر الكراهية وزرع العنصرية وتهديد السلم الأهلي.
الديمقراطية تلوي الخناق على رقبتها وتنهي نفسها بنفسها في البلدان الغربية لتصبح جثة هامدة بلا روح في نظر الكثير من مفكري الغرب، أما في البلدان العربية فتتشدها مطلقة وفي تصور طوباوي يولد الفوضى والتقهقر.