منظمة الصحة العالمية تقدم علاجا لفظيا لفيروس كورونا
الأوبئة والحروب تخفف من صدمة الموت المفاجئ، تجعله متوقعا وتمنح الناس فرصة لرثاء أنفسهم وكتابة وصاياهم قبل هلاكهم.
كذلك تفعل الانجازات العلمية في التشخيص المبكّر للأمراض المميتة قبل فتكها وإجهازها على أصحابها، لكن موت الطبيب الصيني، لى وين ليانج، الذي دفع حياته ثمن التحذيرات المبكرة من اندلاع الفيروس الغامض، وألقت السلطات الصينية القبض عليه بتهمة ترويح إشعاعات، يجعل الأمر أشبه بملحمة “جلجامش” السومرية، والذي يبحث خلالها البطل عن عشبة الخلود، بعد حزنه الشديد على موت صديقه “أنكيدو“.
الفرق بين “جلجامش” السومري و “لي وين ليانج” الصيني، هو أن الأول يريد إيقاف الموت، لكن الثاني يود تأجيله.
أسباب الموت أشد إثارة للهلع من الموت نفسه، ذلك أن البشرية عبر تاريخها، ميّالة إلى تذكّر موتاها في المقابر، أكثر من عيادة مرضاها في المستشفيات أو حتى الاطمئنان على نتائج فحوصاتهم في المخابر.. أليست قراءة أوراق صفحة الوفيات في صحيفة محلية أكثر أريحية من النظر في الصور الشعاعية؟
حتى أكاليل الزهور الصفراء التي تتوج التوابيت في الجنائز وتوضع على رخام قبورهم، تكون دائما أكثر ” فرحا وطمأنينة” من الباقات البيضاء التي تقبع بالقرب من المرضى وهم على الأسرّة البيضاء.
شدة الألم التي تتجول في ردهات المستشفيات أكثر حدة من نبل الحزن الذي يصاحب الجنائز ويرافق صلوات المترحلين على من رحلوا.
المرض يبعث الخوف لدى الإنسان، لكن الموت يوقظ في نفسه الرهبة، فلا يكاد يُذكر وباء قاتل أو علّة مزمنة أمام الحاضرين إلا وقالوا ” حاشا السامعين، واللهمّ أبعده عنا”، بينما يردد هؤلاء، عند ذكر الموت، عبارات تبعث الطمأنينة في النفوس، على شاكلة ” تغمده الله بواسع رحمته، ولترقد روحه بسلام “.
ليس أشد دليلا على ما تقدم من محاولات ” المواساة اللفظية ” للأمراض والأوبئة، أكثر من قرار منظمة الصحة العالمية، تغيير اسم الفيروس إلى ” كوفيد 19″ رفعا لكل التباس أو تشابه في التسميات التي يمكن أن تحيل إلى نزعات عنصرية أو جغرافية، لكن هذا التلطيف اللغوي، لم يمنعها من مطالب الدول أن تعتبر “فيروس كورونا، العدو رقم واحد للبشرية”.
الأدب واحترام المشاعر في توصيفات الأوبئة، لا يمنع من حدوثها، ولا يخفف من أعراضها بل يزيدها رعبا كلما ذيّل أحدهم ذكر مرض بعبارة “الله يجيرنا” أو استعاذ عنه بكلمة ” ذاك المرض الذي لا يُسمى”.. والأدهى من ذلك كله، أن يجعله الكثير من الحاقدين، شتيمة ودعاء على من يكرهونهم من خصوم، كما يحصل في بعض خطب الجهلة من الأئمة.. والحقيقة أن ذلك ليس من أخلاق التدين في شيء.
كانت ـ ولا تزال ـ الأوبئة والحروب، أشد قسوة وفجائعية من نتائجها ومخلفاتها. ولطالما “تفنن” الإنسان في تصوير فظاعتها، ذلك أن قتامة مشهد الغربان المحلقة فوق الجثث أثناء الحروب، لا تناقضها صور قبور من يرقدون بسلام في رياض هادئة ووديعة، كما أن تعفن جثة “أنكيدو” التي تأكلها الديدان، ويرفض صديقه “جلجامش” دفنهاّ في الملحمة السومرية، أقسى ألف مرة، من واحد يموت على فراشه في راحة وأمان.
القادة والأباطرة لم يكونوا في منأى عن الأوبئة والأمراض التي كانت تفتك بالمدن والجيوش، فكأنها كانت تأتي لتوحيد طبقات المجتمع، وإلغاء الفوارق بينها، وذلك ضمن لعنات خلدها التاريخ، واختار لها المدونون تسميات تزيد الأمر رهبة مثل الطاعون الأنطوني أو طاعون الأباطرة الأنطونيين، والذي تسبب في وفاة ما لا يقل عن ألفي شخص يوميا، في حين لم يكن سوى مرض الجدري الذي استمر المصابون به منبوذين ومعاقبين في الأسواق ودور العبادة، على اعتبارهم فئة ملعونة، إلى أن أوجد له الأطباء لقاحات منذ ما يزيد عن القرن، وأصبح هذا المرض من فانتازيا الماضي المليء بالمغالطات والتحريفات.
ما لا يعرفه الكثير هو أن الأنفلونزا، ومشتقاتها، قضت ـ ولا تزال تقضي ـ على قسم كبير من البشرية، ففي سنة 1918 فتكت ما يعرف ب”الإنفلونزا الإسبانية” بقسم كبير من سكان أوروبا. والغريب أن هناك تداخلا بين الشأنين السياسي والطبي، وما يعرف بالشفافية الإعلامية، وذلك في سيناريو يشبه ما حدث مع حالة الطبيب الصيني منذ أيام قليلة، إذ جاءت هذه التسمية بسبب فترة الحرب التي عصفت بالقارة الأوروبية فخلال تلك الفترة فرضت كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا تعتيما إعلاميا كبيرا حول هذا الوباء وتأثيراته بحجة الحفاظ على الروح المعنوية للشعب، في غضون ذلك نقلت وسائل الإعلام الإسبانية تقارير انتشار هذا الوباء في إسبانيا بحرية تامة. ويعزى السبب في ذلك إلى حفاظ إسبانيا على موقف الحياد خلال فترة الحرب العالمية الأولى. وتزامنا مع ذلك وبسبب انتشار تقارير هذا المرض في إسبانيا شكك كثيرون في أن هذا الوباء نابع من إسبانيا ولقبوه بالإنفلونزا الإسبانية. الأمر الذي يقحم نظرية المؤامرة في الأوبئة كما الحروب فالفيروسات صارت تستخدم كأسلحة بيولوجية وهو أمر لم يعد يخفى على أحد، كما لا يمكن تبرئة كل شركات الأدوية من بورصات الفيروسات، والفيروسات المضادة، ذلك أن الرادع الأخلاقي أصبح شبه غائب عن مافيا المال والأعمال، وإن كان على المرء أن يفترض حسن النوايا قبل سوئها، والدخول في متاهة المؤامرات.
وهكذا أسفر وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي واصل انتشاره إلى حدود شهر ديسمبر سنة 1920 عن وفاة ما بين ثلاثين وخمسين مليون نسمة، وفعل بضحاياه أكثر مما يعرف بالأمراض المزمنة والخبيثة، لكن غالبية الناس ما زالوا يعرفونها ب “مجرد نزلة برد”.. ربما لأن اللقاحات التي ابتكرها العلماء، وأصبحت في متناول الجميع، جعلت الجميع يسخر ويستهتر بهذا المرض كما سوف يسخر يوما، من ” كورونا” و”الأيدز” وربما السرطانات.. ولكن، هل سوف يأتي اليوم الذي تسخر البشرية فيه من الحروب، وتودعها إلى غير رجعة؟
المشكلة أن كل من لم يمت بفعل الحروب، مات بسبب الأوبئة في التاريخ القديم والحديث، على حد سواء، لكن الأدهى والأمر أن حتى حالات السلم والانفتاح والازدهار التجاري والثقافي، تصنع وفيات وضحايا بحكم الاحتكاك وتقريب المسافات.
هل على المرء أن يستسلم في هذه الحالة إلى نظرية قدرية مفادها أن الموت حاصل، لا محالة ـ ومهما تعددت أسبابه ـ إذ قد يشكل “حلاّ” للأزمات التي تتخبط فيها البشرية، بصرف النظر عن الزاوية الوجودية والدينية التي ينظر منها الإنسان إلى الموت كسؤال خالد في الأذهان.
ألا يذكّر الأمر بالنهاية الواردة في أسطورة “جلجامش” إذ وبعد حصول البطل على العشبة السحرية التي تعيد نضارة الشباب يقرر أن يأخذها إلى مدينة ” أورك” (العراق حاليا) ليجربه هناك على رجل طاعن في السن قبل أن يقوم هو بتناوله، ولكن في طريق عودته وعندما كان يغتسل في النهر سرقت العشب إحدى الأفاعي وتناولته فرجع جلجامش إلى أورك خالي اليدين وفي طريق العودة يشاهد السور العظيم الذي بناه حول أورك فيفكر في قرارة نفسه أن عملا ضخما كهذا السور هو أفضل طريقة ليخلد اسمه.. وهنا تكمن المقاربة ـ وكذلك المفارقة ـ بين الطبيب الصيني الذي اكتشف الفيروس، ومات به، وبين جلجامش السومري، الذي خط الشعراء ملحمته في بابل على ألواح طينية منذ آلاف السنين.