كتاب الموقعكلمة في الزحام

أولاد حارتنا… طرائف من تونس

أولاد حارتنا… طرائف من تونس.. منذ بضع سنوات، سألت صديقا مشرقيّا عن انطباعه حول رحلته الأخيرة إلى تونس، ظلّ صديقي يتحدّث بإطناب عن كرم الضيافة وحسن الاستقبال وطيبة الناس … ربّما كان أمينًا وصادقاً… وربما كان يريد إراحتي وإبهاجي في غربتي، وكأنّي سفير للسياحة التونسيّة أو النوايا الحسنة …
لكنّي كنت أنتظر منه- وبفارغ الصبر- كلمة (ولكن): الشهيرة في الاستدراك والمصارحة، مثل من ينتظر الطبق الرئيسيّ بعد صحون كثيرة ومكرّرة من المقبّلات الباردة والمملّة.
أخيرا نطقها صديقي مستدركًا: (لكنّ أغلبكم يتّسم بالجديّة أكثر ممّا يجب، واقعيّ أكثر من اللاّزم، لا تبتسمون للنكات والممازحات ولا حتى للأرغفة الساخنة، يكشّر بعضكم لدى سماعه لحديث لا يعجبه… وكأنّه اشتمّ لتوّه رائحة كريهة).
توقّفت لدى تعليقه الأخير، فوجدتني – من حيث لا أقصد- أقارن التوانسة ببقيّة الأشقّاء في مشرق الوطن، على وجه الخصوص.
انتبهت إلى أنّ التوانسة لا يضحكون للطرائف والنكت، بل يصنعونها ويتركون للآخرين مهمّة ومشقّة الضحك عليها، تماما مثل صديقي أبو عدنان داغستاني، الظريف الدمشقي الشهير.. الذي لا يضحكنا بتعليقاته إلاّ وهو عابس ومتجهّم.
تذكّرت طرائف وغرائب كثيرة من أولاد حومتنا (أي أبناء حارتنا باللهجة التونسيّة)، تذكّرت جارنا اللحّام (عزّوز) الذي يعلّق في صدر دكّانه شهادة (لا حكم عليه) إلى جانب ترخيص البلديّة، وقد كتب في أعلى دكّانه (مجزرة الشعب) بعفويّة واضحة ودون تقصّد أو سخرية.
كان (عزّوز ) يقفل دكّانه على عجل بعد نفاذ اللحم ولا يبقي إلاّ على القليل، يصطحبه معه إلى الحانة، يأمر النادل بشوائه، سألناه: (هذه اللحمة ليست طريّة وغير صالحة للشواء يا عزّوز).
– أنا أغشّ نفسي وأهل بيتي فما بالكم أنتم… ثمّ أنّي لست منكم كي لا أغشّكم في إشارة إلى الحديث القائل:(من غشّنا فليس منّا).
كان عزّوز يدّعي معرفة كلّ أصحاب النفوذ من زبائنه (اللاّحمين )، سأله أحدهم :(كيف السبيل إلى تأجيل خدمتي العسكرية ؟)، ردّ عزّوز: (أنا أعفيك).
-كيف….!؟
-تأتي إليّ غداً صباحاً إلى المحلّ وسأقطع بساطوري سبّابتك اليمنى…أي تلك التي تضغط على (الزناد).
كان عزّوز يتحدّث بجديّة تامّة …ولم يكن يتقصّد التنكيت أو الإضحاك.
تذكّرت الخيّاط الملقّب بـ(الجنرال) في القيروان، والذي جاءه أحدهم بقطعة قماش لتفصيل طقم ففصّل له بالقطعة كاملة مجموعة من الطواقي … وكان الجنرال يقف محيّياً الناس في الحشود الرسميّة وتحت المطر ظنّا منه أنّهم جاؤوا لاستقباله والهتاف له في موكب رسمي.
تذكّرت السيدة التونسية الملقّبة ب(المستشرقة) وهي تمدّ يدها متسوّلة بالقطع الأجنبي …وبلغة فرنسيّة.
تذكّرت الشاب الملقّب بعبد الحليم حافظ وهو يغنّي (موعود) تحت الشتاء ويتوسّل الأطبّاء أن يحقنوه بجرثومة المالاريا تمثّلا وتيمّنا بالعندليب الراحل.
تذكّرت المتسوّلة المجنونة الملقّبة ب(داليدا) وقد لطّخت وجهها بكل أنواع الحمرة، تقترب من الناس في مقاهي الرصيف، تهمّ بتقبيلهم، فيمنحوها بعض النقود وهم يبتعدون مفزوعين، خشية أن يلوّثهم (مكياجها) الصارخ.
تذكّرت الشاعر الجوّال أو (التروبادور)، كيف كان يجلس على كرسيّه خلف طاولة فوق عربة يجرّها حمار، يكتب(شعره) بهدوء تام …ثمّ يلقيه على الناس في الشوارع المزدحمة…. وبنبرة خافتة.
تذكّرت المجنون الذي يلقّبه الناس ب(بورقيبة) وهو يخطب فيهم دون كلل أو ملل، مقلّدا حركات وعبارات الزعيم الراحل (الحبيب بورقيبة) بطريقة كاريكاتيرية أخّاذة.
تذكّرت غيرهم من الذين لا يسمح الحياء العام من ذكر حكاياتهم وطرائفهم …إنّهم مؤرّخون من نوع خاص.
هذه عيّنة من شتّى أنواع الجنون والطرافة والغرابة التي مارسها أصحابها بمنتهى الجديّة والصرامة دون ضحك أو إضحاك، حتى ليكاد الزائر أو الغريب أن يكترث من عدم اكتراث الناس لهم …وكأنّ المشهد طبيعيّ جدّا.
هؤلاء هم فاكهة المدن التي تعطيها زهوها وتنوّعها، (هضامتها )… وقدرة هضمها لعسر الحياة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً….ألم يكن الشاعر و الفيلسوف الايرلندي (برنادشو) حزينًا ومتجهّماً ، يستغرب من ضحك الناس على تعليقاته ومقولاته…!؟.
لن أنسى المشهد الذي رأيت فيه كل هؤلاء (المجانين) يساقون إلى حافلات النقل المتّجهة نحو المناطق الداخليّة أثناء اقتراب الموسم السياحيّ … كي لا برى الأجانب (أدلاّء سياحيين) من نوع آخر.
هل شاهدنا (شارلي شابلن) يضحك يوما…لا شكّ أنّ صنّاع النكتة في العالم لا يريدون الإضحاك…وإنّما التبليغ…. وتغيير دمعة بدمعة أخرى.
هؤلاء هم (الفاكهة) التي تقدّم بعد كلّ الأطباق … تقدّم طازجة ولا تطهى على أيّ نار.

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى