كلمة في الزحام

الشيء الذي لا أعرفه

الشيء الذي لا أعرفه … “أجلس على قارعة الطريق، بينما السائق يغير العجلة، لا أحب المكان الذي جئت منه ولا أحب المكان الذاهب إليه.. لماذا إذن، أراقب تغيير العجلة بفارغ الصبر! “.

استوقفتني هذه العبارة التي قالها الشاعر والكاتب المسرحي الألماني برتولد بريخت(1898 – 1956)، عندما كنت أسرع في المشي نحو وجهة لا أعرفها.

لم أكن أمشي بدافع الرياضة، ولا رغبة في النحافة فوق النحافة التي أنا عليها. ولم أكن أمشي لأنني “مشّاء” من تلاميذ أرسطو، الذي سئم من خلافة أفلاطون فاستأجر أرضا يمشي عليها لأنه لم يكن من سكان دولة أثينا.

كنت أمشي وأسرع في المشي على أرض بلاد تكبرني ببضعة سنوات (استقلت تونس عام 1956)، ولم تكن غايتي الوصول، ولا حتى التفكير أو النقاش كما يفعل تلاميذ هذه المدرسة بل كنت راغبا في التخلص من أي رغبة.

يعترضني البائعون المتجولون والعشاق المتسكعون، المتسولون والمترنحون، وحتى النقابيون والسياسيون، فأتجاوزهم وأمضي مسرعا كرجل واضح الوجهة والهدف، “صريحا كطلقة مسدس” ثم أجدني بعد سويعات، منهكا في الفراش وأنا أمنّي النفس بالمزيد من المشي، ولو في الحلم.

ليس في بلادنا ما يغري بالمشي: وجوه مكفهرّة، شوارع متسخة، ألفاظ نابية، لصوص وخاطفون، لكنني أمشي ما دامت لي قدمان، رأس خاوية وحذاء لم يهترئ بعد.

الحقيقة أنّ لدي شيئا أبحث عنه، لكنني لا أعرفه، ولست متأكدا أني سأجده.

أقوم في الصباح الباكر، أشرب قهوتي وأنا أستمع إلى نشرة الأخبار بانتباه شديد وكأنهم سيذكرون الشيء الذي أبحث عنه بعد قليل ثم أستحم، ألبس وأتعطّر وأذهب إلى موعدي مع ذاك الذي أبحث عنه ولا أجده كل يوم.

من يدري.. ماذا لو وجدت ذاك الشيء الذي أبحث عنه ولا أعرفه وأنا غير مستحم ولا متأنّق ولا حليق الذقن.. حتى تلك الغفوة الشهية التي أتمناها قبيل استفاقتي وأنا في الفراش، قد تفوّت علي فرصة العثور على ذاك الشيء الذي أبحث عنه ولا أعرفه.

سحقا.. البارحة شغلت نفسي بالتفكير وأنا أمشي.. ربما صادفني ذلك الشيء الذي أبحث عنه ولا أعرفه، وأنا غارق في التفكير.

جبت بلادا عديدة لا يتسنى لي زيارتها حتى وإن كنت ميسور الحال.. وبحثت فيها عن “شيئي الذي لا أعرفه”. كان ذلك بفضل المسرح الذي كان بريخت، من أشد عماده رغم شدة احمرار قلمه.

كنت ولا زلت أسير كالأنهار التي كتب عنها بريخت في نشيده الأممي الشهير، لكن دون وجهة أو لون أو راية.

جل ما يخشاه المرء أن يكون “النهر المتجمد” الذي قال عنه ميخائيل نعيمة ” يا نهر هل نبضت مياهك فانقطعت عن الخرير أم قد هرمت وخار عزمك فانثنيت عن المسير”.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى