فاصل, و نواصل..
فاصل, و نواصل.. قيل لأحد المعتقلين الذين يرزحون تحت التعذيب وفوق أبشع ما ابتدعه خيال السفّاحين والجلاّدين (الخازوق) : غريب أمرك, لم طلبت الترجّل من (صهوة) هذا الخازوق للذهاب إلى ذاك الذي في طرف الزنزانة ؟… مع أنّ الآلتين متماثلتان في الحجم والحدّة والمفعول ..!؟
ردّ السجين : إنّما أردت أن أريح جسدي قليلا في الأمتار القليلة التي أقطعها من هنا إلى هناك .
هذا هو قدر الشعوب المنكوبة التي لا تستريح إلاّ بين خازوقين … وإن استراحت مرّة واحدة وإلى الأبد, ففي القبور وتحت الركام .
كأنّ السلام في قاموس الانسانية هو استراحة محارب, كأنّ التعايش والوئام استثناء حين تشذّ القاعدة … فيحفظ ولا يقاس عليه.
التعطّش للدماء والهيمنة من جهة والتوق إلى الحرية والإنعتاق من جهة أخرى : ثنائيّة استقطابيّة تحكم بني آدم منذ بدء الخليقة وسفر التكوين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها … ولكن…
هل نستسلم لهذه (الحقيقة) كقضاء مبرم وأجل محتوم, فنحني الهامات إلى من كبّلونا القيود, نلعق الجراح ونمضي العمر على (أنغام ) زرد السلاسل و(هدهدة) الأنين .
هل نسينا أنّ لكلّ شيء ثمن, والأثمان وجدت قبل ابتداع النقود وأساليب المقايضات الرضائيّة الأخرى …. وثمن الحرية لا يمكن أن يكون إلاّ بالذهب الأحمر …. إنه عقد خفيّ -لا مكتوب ولا منطوق – بين المعتدي والمعتدى عليه, ويقول نصه: (الهيمنة لمن غلب), أمّا الشاهدان الوحيدان فهما الله والتاريخ.
هل تناسينا أنّ المجتمعات الغربية التي يلجأ إليها مثقفونا طلبا للأمان والحرية كان قد دفع أجدادها أثمانا باهظة حتى ينعم الأحفاد بالعيش الكريم, ومن ثمّ يتفاخرون بأنهم يؤمّون كل منكوبي الأرض… فلماذا نأكل ممّا زرع الآخرون …. إنّ الفجر لمن صلاّه .
الكلام سهل, و(المتفرّج فارس) كما يقول المثل الشائع, فمن قدماه على الجمر ليس كمن يرفل في رغد العيش ويطلّ من الشاشات منظّرا, وراء الحدود وخلف البحار .
ثمّة استراحة أكثر فظاعة بين كارثتين, وهي قراءة وتحليل ما يجري في هذا العالم الذي فقد العقل والقلب, إنها كمن يفكّك ألغاما زرعها أكثر من (شيطان) في حقل لا تستقرّ حدوده ولا يريدون له أن يكون فضاء للسلام والحرية والاستقرار.
لقد اجتمع العالم (المتحضّر) على رمي فضلاته في مزرعتنا التي كانت ولا تزال تحلم بالحنطة والثمار والعصافير, استبدلنا المعاول والفؤوس بالبنادق والسكاكين … ولم يترك لنا أزيز الرصاص مجالا لقصّ الحكايات على أطفالنا قبل النوم… النوم إذا ما استطعنا إليه سبيلا.
(من الجاني), قصّة بوليسيّة متشابكة الخيوط ومترامية الأطراف في (قطار الشرق المعطّل) ذي العربات المفكّكة والسكك المتداخلة والطرق المقطوعة … وناظر المحطّة النائم .
بين كل خازوق وخازوق ثمّة خازوق ينبت من أرض الوجع, حتى صارت الفواصل والاستراحات أقصر من أنفاسنا, مثل فيلم سينمائي طويل, مملّ … ودون إعلانات … وأجبرنا على مشاهدته حتى النهاية.
تخطّت مجتمعاتنا فورة التحليل السياسي وصار الناس يقولون لبعضهم في سكينة واستسلام : (الله يفرجها ).. نعم, ولأنّ أوضاعا كثيرة في هذا العالم لا يمكن تغييرها إلاّ بقدرة قادر, صارت علاقتنا بالخالق مبنيّة على التضرّع والاتّكال المطلق بدل أن تكون علاقة محبّة وعمل وانصهار صوفيّ بهيج … كذا الدابّة كلّما ثقل عليها الحمل رفعت رأسها إلى السماء.
حدّثني صديق من بلد شقيق أنّه عندما كان نزيلا لديهم بصفة (معارض), كان يتناوب على (التحقيق ) معه أكثر من ضابط ليمكّن الأخير زميله من (بريك قصير) وكانوا أثناء الاستراحة يمازحونه ويمدّونه بالسجائر, يلاطفونه, يحادثونه بمنتهى اللطف والحميميّة, وكأنهم من أقرب أصدقائه … وعندما تدقّ ساعة (العمل) ينزعون القناع أو يرتدونه … لست أدري … هل رأيتم أغرب من هذا الانفصام ! ,قلت له ممازحا : (لكنّك ما زلت سجين رأي وأنت طليق), ردّ : كيف؟
أجبته : إنك ما زلت سجينا في رأيك ولم تغيّره, وحدهم الحمقى لا يبدّلون ولا يعدّلون من آرائهم … خصوصا بعد تلك الفواصل الدعائيّة التي عشتها هناك …لا تقل لي لم تزدني إلاّ إصرارا وووو الخ ..
* وماذا تريدنا أن نفعل ؟!
*لست أدري… والله لا أدري.
*كلمة في الزحمة:
لكم أحد أصحاب الآراء المتشدّدة مذيعا مشاكسا على الهواء فهرّت أسنان الأخير الذي خاطب الكاميرا وهو يضع يده على فمه قائلا: (شيداتي شادتي, فاشل ونواشل).